Al Jazirah NewsPaper Thursday  16/07/2009 G Issue 13440
الخميس 23 رجب 1430   العدد  13440

وعلامات
تجاربهم في القراءة (1)
عبد الفتاح أبو مدين

 

هذا العنوان الذي اختارته مكتبة الملك عبدالعزيز رطّب الله ثراه، للحديث، وهو عنوان جميل، يستطيع مغرم القراءة، أن يجد مجالاً للحديث عن علاقة بالكتاب، وهي علاقة جد حميمية، ذلك أن صحبة الكتاب مغرية لدى الذين كانت لهم هذه العلاقات الودود.. وحين نقرأ قول شاعر العرب بلا منازع أبي الطيب المتنبي: وخير جليس في الزمان كتاب، نقول لقد صدق أبو الطيب في وصفه للكتاب بأنه خير جليس وخير صديق.. ونقرأ في العصر الحديث قول أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله:

أنا من بدّل بالكتب الصحابا

لم أجد لي وافياً إلا الكتابا

صاحب إن عبته أو لم تعب

ليس بالواجب للصاحب عابا

كلما أخلقته جددني

وكساني من حلى الفضل ثيابا

إن يجدني يتحدث أو يجد

مللا يطوي الأحاديث اقتضابا

تجد الكتب على النقد كما

تجد الإخوان صدقا وكذابا

فتخيرها كما تختارهم

وادخر في الصحب والكتب اللبابا

صحبة لم أشك منها ريبة

ووداد لم يكلفني عتابا

رب ليل لم نقصر فيه عن

سمر طال عن الصمت وطابا

صالح الإخوان يبغيك التقى

ورشيد الكتب يبغيك الصوابا

حقاً إنها صحبة متميزة، وكذلك صحبة الإخوان من أولي الألباب.. وأجد أبا الطيب يصف الكتاب بأنه (خير جليس) وهذا حق وصحيح.. وحين أقف اليوم لأسوق تجربة متواضعة، فإن الدافع الأول إليها كانت الحاجة.. وأنا ولداتي ولعلهم كثيرون الذين سعوا جادين إلى هذه الصحبة الأثيرة، فإن ظروفاً ربما كانت صعبة قادت إلى تلك الصحبة.. فإنسان مثلي لم يتح له نصيب من التعليم يحقق له حياة كريمة، وليس له سبل أخرى تحقق له شيئاً من موارد تسد الكفاف في مسار حياته يكفل له شيئاً من الضروريات، وأدركت من خلال تعليمي المنتظم لشهور لم تكمل العام، وهي الفترة التي جلست فيها على رحلات فصول التعليم، شهور بعضها في السنة الرابعة الابتدائية، وعام دراسي في السنة السادسة الابتدائية، تخللتها أسابيع في صحبة أستاذ في المسجد النبوي الشريف، لقراءة نصوص من مقرر السنة الخامسة الابتدائية، نصح بذلك شيخ لي في مدرسة العلوم الشرعية في دار السكينة والحنان، ليتاح لي الالتحاق بالسنة السادسة، مرد ذلك تقدمي في السن بالقياس إلى الطلبة في الفصول الدراسية يومئذ!

وهذا الجمز السريع الذي فرضته تلك الظروف، وصولاً إلى امتحان الشهادة الابتدائية؛ كانت نتيجته، أنني أخفقت في مادة من المقرر الدراسي هي -التعبير-، وكان قول شيخي محمد الحافظ بن موسى رطّب الله ثراه إن مادة التعبير تكتسب بالمرانة عبر القراءة.. لكن الأستاذ الذي قرأ أجوبتي في الامتحان، نصح لرسالته التعليمية ونصح لي، كان دافعاً لي إلى السعي نحو القراءة؛ وشكرت في نفس ذلك النصح، وإنني كلما جاء ذكر إخفاقي في مادة التعبير؛ أترحم على ذلك الأستاذ المخلص في رسالته، ولا أحد منا يعرف صاحبه، فهو كان في المديرية العامة للمعارف في مكة المكرمة، وأنا في دار الهجرة المباركة في المدينة المنورة..

بعد هذه الشهور الثلاثة عشر في الدراسة المنتظمة والعابرة وإكمالي في درس التعبير في الدور الآخر، قدر لي النجاح في هذه المادة، ولم أفكر في مواصلة الدراسة في المرحلة الثانوية؛ ولم يكن هناك يومئذ مرحلة إعدادية، وإما بعد الابتدائية كانت الثانوية بوسطها وعلى الأصح ثلاث سنوات تسمى مرحلة الثقافة، والسنة الأخيرة ختام المرحلة الثانوية.. إذاً فأنا لم يتح لي المضي في مواصلة الدراسة، ومرد ذلك أن خالي الذي كان ينفق عليَّ في حدود الكفاف قد تقاعد، وعزَّ عليَّ أن أحمله شيئاً من أعبائي لمواصلة الدراسة الثانوية وما بعدها، السعي إلى الدراسة في الأزهر أو في الجامعة المصرية من خلال البعثات التي توفد إلى هناك.. ولذلك رجوت خالي أن يُوصي عليّ من يضعني في وظيفة في الجمارك بجدة، حيث كان هو يشغل -نظارة عموم الرسوم- كما كانت تسمى يومئذ، وقد فعل بكتابة رسالة لرئيس تحرير أمانة جمارك الحجاز بجدة، حيث تغير مسمى النظارة، فأصبح هناك أمانات في أنحاء البلاد في المناطق الشرقية والجنوبية والشمالية.. وفي جدة تم تعييني بعد عدة شهور في وظيفة مقيد أوراق، لكني في موازين كفاءات العاملين وجدت نفسي دونهم، ولمست من تجربة تكليفي بتبييض بعض الرسائل الموجهة إلى الملحقات التابعة للأمانة، أن أمين الجمارك كان لا يجيز التوقيع على الرسائل التي أخطها بقلمي المتعثر بقوله (إنها لا تقرأ) فتكتب على الآلة الكاتبة، وأدركت يومها أنني في حاجة إلى القراءة.. وقد أتيح لي التعرف على الشاعر الأديب الأستاذ محمود عارف رحمه الله، فرجوته عوني في احتياجي، فنصحني باقتناء -نظرات المنفلوطي- ففعلت، وكنت أقرأ عليه كل يوم مقالة من مقالات النظرات، وكان يكلفني بتلخيص ما قرأت، والمحصلة أنني أنقل من النص أكثر مما ينبغي عليّ أداؤه، لأن محصولي من بدائيات التعبير صفر، وقد لمست ذلك في فترة دراستي في السنة السادسة الابتدائية، فرفاقي يكتبون في درس التعبير صفحة أو أكثر من ذلك بسطور معدودة، وكان ما أكتبه بين خمسة إلى ستة سطور، وعرفت بعد التحاقي بالوظيفة في الجمارك أن مصحح وريقات امتحاني في مديرية المعارف يومئذ أنه محق في إكمالي في درس التعبير كما أشرت إلى ذلك آنفاً، لأنه أخلص في أداء واجبه وأمانته رحمه الله!

* هذا الحديث ألقي في مكتبة الملك عبدالعزيز بالرياض بتاريخ 23-6-1430هـ


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد