Al Jazirah NewsPaper Tuesday  14/07/2009 G Issue 13438
الثلاثاء 21 رجب 1430   العدد  13438
أضواء
شرف الصورة..!!
جاسر عبد العزيز الجاسر

 

باعتزاز ومحاولة مني للحصول على شرف أدبي، أستبدل صورتي التي اعتدتم مشاهدتها تتصدَّر مقالاتي في زاوية أضواء، لأضع بدلاً منها صورة أصغر وأخطر أسير في العالم، تحتجزه سلطات الاحتلال الإسرائيلي، فقد أرسلت الجمعية الفلسطينية لحقوق الإنسان (الإعلام المركزي الفلسطيني) عبر (الإيميل) الذي أُذيل به مقالاتي، قصة هذا الأسير، القصة التي بمقدار ما تكشف فداحة وقساوة ما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلي من أعمال لا تجد من يعاقبها عليها، فإنها تظهر صلابة وقدرة المرأة الفلسطينية على مواجهة القهر والتحديات، وكيف يتربى الفلسطينيون على النضال ومواجهة الظلم، فهذا الأسير الذي ننشر قصته من داخل أسوار المعتقل تفتَّحت عيناه على قضبان السجن تحيط به من كل جانب، واخترقت أذنيه صرخات جنود الاحتلال، إنه الطفل يوسف ابن الأسيرة فاطمة الزق، التي وضعته داخل أحد سجون الاحتلال الإسرائيلي ليصبح أصغر أسير في العالم يحبو وتحد خطواته جدران المعتقل، يحلم برؤية النور بعد الظلام، قد يكون أصغر من أن يعي هذه المعاني الكبيرة، لكن إحساسه سينمو مع جسمه مستشعراً تلك الأيام الصعبة، يوسف ووالدته الأسيران هما جزء من عائلة يكملها أبو محمود وأولاده الثمانية، الذين لم يتعرّفوا إلى يوسف إلا من خلال الصور. من هنا تبدأ المأساة ولا تنتهي.

ولد يوسف داخل سجن للنساء، في حضن أمه الأسيرة. صفة أخذت طابع الكنية الحقيقية لديه. صرخاته الأولى والثانية تخبّطت في جدران الزنزانة لا سبيل إلا للصبر، وربما بعض من الغرور؛ لكونه أصغر أسير في فلسطين، وعلى الأغلب في العالم، حتى إنه قد يكون أضاع رائحة أمه لكثرة روائح الظلم التي شمّها منذ اليوم الأول لقدومه إلى الحياة.

أبو محمود يسرد (رحلة العذاب) تلك التي غيَّرت مجرى حياته وحياة جزء من أسرته، بعدما صار جزأها المكمّل أسيراً. يبدأ أبو محمود بسرد قصة العذاب هذه: (احتاجت ابنة أخت زوجتي (روضة حبيب) إلى العلاج في أحد المستشفيات الإسرائيلية، واستحصلت والدة الطفلة روضة على التصاريح اللازمة لذلك، وطلبت من زوجتي فاطمة أن ترافقهما في رحلة العلاج التي لن تتعدى أسبوعين على أبعد تقدير. جاء يوم السفر في العشرين من أيار عام 2007م، وغادرت أم محمود المنزل بعدما وعدت أبناءها بألا تطيل الغياب عنهم.. احتضنتهم طويلاً.. يصمت أبو محمود برهة قبل أن يكمل حديثه: (لم تعد من يومها، فقد اعتقلتهن قوات الاحتلال بمجرد وصولهن إلى معبر بيت حانون (إيرز) الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المحتلة عام 48، ثم نقلتهن إلى سجن هشارون الإسرائيلي بعد تحقيق طويل وإهانات مستمرة ومعاملة قاسية.

فاطمة (42 عاماً) الأسيرة أم الأسير، كانت تعتقد أنها فترة بسيطة وسيتضح الأمر الذي ربما يكون مجرد لبس واشتباه في الأسماء، وأن المسألة لن تتعدى أياماً قليلة وستعود حتماً إلى بيتها وزوجها، ويسمح لها ولشقيقتها بمتابعة رحلة علاج روضة، لكن الأمر طال، ونسيت فاطمة ابنة أختها بعدما كابدت هي ألماً أكبر داخل المعتقل. فقد اكتشفت على أثر نقلها إلى مستشفى السجن أن في داخلها جنيناً يتكون، كان بطنها يكبر شيئاً فشيئاً لتجد لها مؤنساً في وحدتها لعلها تُشغل به وتنسى معاناتها التي بدأت ولا تعلم متى ستنتهي؟

في 18 كانون الثاني من عام 2008م، دهمت آلام المخاض الأسيرة فاطمة، ونقلتها إدارة السجن إلى مستشفى (مائير) الإسرائيلي في وضع غير إنساني، ومن دون مراعاة لوضعها وحالتها الصحية. ومارست قوات الاحتلال شتى أنواع الضغط النفسي والجسدي عليها حتى في الطريق إلى المستشفى لدرجة أنها لم تفك قيودها إلا لحظة الولادة بذريعة أمنية، وأعيدت إلى سجنها ومعها طفلها الوليد في اليوم ذاته.

يقول أبو محمود: (أشتقت إلى ابني الذي لم أره مرة واحدة، لم أسمع مناغاته إلا مرات قليلة عبر التليفون) تدور عيناه في المكان كأنه يبحث عن شيء يفتقده، ومن ثم يكمل حديثه: (بالتأكيد هو الآن قد تعلّم نطق بعض الكلمات لكني لم أسمعه يقول بابا أبداً) وتساءل بنبرة ملؤها الحزن: (هل يعرف أصلاً أن له أباً وإخوة ينتظرون قدومه بفارغ الصبر. لقد أشتقت إليه ولأمه كثيراً).

وكان أسرى سجن (هداريم)، المجاور لسجن (هشارون) للأسيرات، قد كسبوا قضية ضد إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية، للسماح لهم بإدخال الألعاب إلى الطفل يوسف الزق، بعد شهور من منع الإدارة السماح بإدخال أي ألعاب أو مستلزمات له.

يوسف معتقل منذ لحظة ولادته، ربما بتهمة البراءة، فهذا الصغير لم يكد يستشعر حاجته إلى أمه وعدم قدرته على البعد عنها حتى صدر القرار: يجب أن تقضي أيامك الأولى إلى جوار أمك، في معتقل يمنع أن يحوي أبسط الحاجات الإنسانية، عليك أن تفتش عن الضوء داخل زنزانة لا تعرف الشمس إليها طريقاً، وأن تتعلّم في أيامك الأولى قسوة السجان، وكمعتقل، عليك أن تدرب عظامك الطرية منذ البداية على معنى البرد في ليالي الشتاء الطويلة، وقيظ الزنزانة في أيام الصيف الحارة.

هذا الطفل هو أصغر أسير في سجون الاحتلال من بين نحو 400 طفل دون عمر الثامنة عشرة تعتقلهم قوات الاحتلال الإسرائيلي في سجونها، في ظل ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد، وبما يتنافى مع قواعد القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان ومبادئها. رغم هذه الصفات تبقى إسرائيل في نظر دول العالم الأكثر ديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط.



jaser@al-jazirah.com.sa

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد