Al Jazirah NewsPaper Tuesday  14/07/2009 G Issue 13438
الثلاثاء 21 رجب 1430   العدد  13438
تجربة (فتًى) كان في طريقه إلى التطرف 5 - 6
رحلة (روحانية) مقدسة لم تتم؟!
د. محمد عبد الله العوين

 

أبدى والد (الفتى) موافقته على مضض على رحلة العمرة مع الجماعة في أقرب فرصة ممكنة، بعد زيارات عدة قام بها اثنان من قياديي الجماعة لوالد (الفتى) مبدين له جانباً كبيراً من اللطف والدماثة وحسن الخلق، ومؤكدين على أن يظهرا في مظهر أقرب إلى الخشوع والتقوى...

....ومبالغين في رسم صورة نقية للقاءات الإخوان، واهتمام بالغ بالعناية والرعاية للفتى، وكأنهما ليس لهما شأن ببقية شبان الجماعة، أو أنهم لا يحتلون من المنزلة في قلبيهما ما يحتله هذا الفتى، أو لربما تكرر رسم هذه الصورة المشفقة على الشبان عند آبائهم لبث الطمأنينة والسكينة في قلوبهم، وأن أبناءهم في أيد أمينة.

ولم يكن الأخوان القياديان بقادرين على انتزاع هذه الموافقة لو لم يمهد لذلك (الفتى) بمقدمات طويلة عن مدى ما تكتنفه من مشاعر جياشة، وأشواق حارة لزيارة مكة المكرمة، والصلاة في الحرم، وفضل العمرة، وأن الصلاة الواحدة في الحرم المكي تعدل سبعين صلاة كما ورد في الأثر، وهو لا يتوانى عن اغتنام الفرص السانحة لتمرير هذه الأفكار بحيث يكون والده مهيئاً لمنح الجماعة الموافقة دون تردد على اصطحابهم إياه أسبوعاً في رحاب الديار المقدسة.

إذن ستنطلق هذه الرحلة يوم الأربعاء 14-3- 1395هـ ولمدة أسبوع وهواجس الفتى الشاب تستولي على تفاصيل حياته اليومية، كيف سيرى الحرم لأول وهلة؟ ماذا سيحدث له مع إطلالته الأولى على الكعبة؟ وما هو إحساسه بمدى الروحانية وتغلغل الشعور الإيماني حين تقع نظراته الأولى على المصلين والطائفين وحين ينصت إلى الشيخ عبد الله الخليفي وهو يقرأ في صلوات المغرب أو العشاء أو الفجر؟! خيالات بعيدة نقية سارحة تعصف برأسه وهو ينطلق بلا هدف ولا غاية بسيارة والده (اللاندروفر) في اتجاه المزارع المحيطة بالقرية والبساتين التي تلفها من الغرب لا يخترقها إلا شارع متعرج ضيق يتلوى بين المزارع كالثعبان الأسود!! وكان النسيم العبق بروائح متداخلة مع بدايات يوم ربيعي ينطلق عذباً هادئاً متداخلاً مع خرير جداول الماء في بعض المنعطفات على جانبي الطريق لا يفوقه سوى أصوات مكاين الماء التي لا تكاد تختفي إلا وتحتل الفضاء من جديد.

عاد من هواجسه والصور المتخيلة التي تترى أمام ناظريه ويسرح وراءها محلقاً مرتحلاً بعيداً عن واقعه المادي، وهو في لحظاته تلك وببياض ملابسه وأناقته القروية المتواضعة وفي ظلال خيالاته الروحانية يبدو وكأنه لم يتلوث بعد بخطيئة قط، ولم يقترب في مشوار عمره الفتى القصير ذنباً يمكن أن يفسد نقاء هذا البياض وجلال تلك المشاعر، وما كان تطلعه إلى زيارة الحرم المكي وصحبة الجماعة إلا رغبة في مزيد من التطهر، وشوقاً إلى إشباع روحي وطمأنينة إيمانية يتوق إليها وتفيض بها جنبات ذلك المكان المقدس!

ما كان يعلم الفتى وهو في غمرة مشاعره النقية تلك والبريئة تلك كم هي الحياة عنيفة في تقلباتها، وعجيبة في تغيراتها وانقلاباتها، وما كان يدور في خلده وهو في محيط عالمه الفوار بمثاليات وأحلام بريئة أنه سيمر في مقبل السنوات القليلة القادمة بما سيزلزل كثيراً من قناعاته، وسيغير نمط حياته، بل سيقلبها إلى اتجاهات أخرى بعيدة ومختلفة كل الاختلاف عن هذا الذي يستولي على أفكاره ومشاعره!

عاد من خيالاته السارحة ومن الطريق الضيق المتعرج نفسه المحفوف برائحة المزارع وعبق رطوبة الأرض وتداخل أصوات خرير الماء وتغريد طيور الصباح وحفيف الأشجار، كان يكاد يمسك ببعض الغصون الممتدة إلى الشارع وهو يمر بهدوء غير عابئ بكل ما حوله سوى حلمه الذي سيتحقق قريباً.

كل شيء مرتب لهذه الرحلة، ووالدته لا تدري كيف تعبر عن مخاوفها وقلقها من أول انطلاقة للفتى خارج محيط أسرته الصغيرة، خائفة ربما من الطريق الطويل؟ وخائفة عليه بما من جماعته التي أحاطت به وما تركت له متنفساً حتى غدا لا يعرف أو يفكر أو يتحدث عن سواها؟ وخائفة أيضاً من نوايا سيئة مختبئة قد لا يدركها الفتى الصغير البريء ربما لا تخلو مجموعة من الناس متعددة المشارب ومختلفة البيئات من أن يكون واحد منها منطوياً عليها؟! إنها جملة مخاوف تستبد بوجدان والدة الفتى ولا تريد لها أن تبدو عليها ولكنها تفلت من صمتها المطبق بعد صدور موافقة والده محفوفة بدعاء أو ما يشبه الدعاء أن يحفظ الفتى من اندفاعه إلى الدخول بعمق شديد مع أناس لا يعرف كثيرين منهم، ولا يعلم أين ستنتهي أهدافهم وغاياتهم، ولولا أن أحدهم من أبناء القرية وممن يعرفون أسرته، ويعلمون استقامته حق العلم وهو من النافذين المؤثرين وممن له نصيب وافر ومؤثر في المكتبة التجارية التي يتولى الفتى إدارتها لما وافقت هي، ولربما مال أيضاً والده إلى رأيها المعارض، لقد كان للقيادي المؤثر ابن القرية أكبر الأثر في دفع أسرة الفتى إلى التسليم والرضا والقناعة المنطوية - كما يبدو - على قلق داخلي - بانخراط الفتى بكل ما يملك من حماسة واندفاع وعمل وتأسيس فكري ودعوي الإقبال المندفع عليها خلال السنوات الثلاث الماضية بشخصية أخرى مختلفة عما كان عليه، فقد تبدل وتغير وتحول من تلك الشخصية الهادئة السلسة إلى فتى مشبوب العواطف متقد الأفكار، حاد النقد، ساخط على كثير مما حوله مما يعتقد أنه غير إسلامي، جاهز لإطلاق أحكامه على مجتمعه بالمروق، والتبلد، والضعف، والتبعية، واستسلامه لتقليد الغرب الكافر، وعدم تعضيد المضطهدين من المسلمين في بقاع وأماكن مختلفة من العالم، في التركستان، وفي خليج مورو، وفي الهند، وفي فلسطين، وفي غيرها من أماكن التوتر آنذاك!

ويستمد الفتى ثورته على واقعه السياسي والاجتماعي من أحلامه بعودة الدولة الإسلامية التي ينظر لها سيد قطب، وهي قد تكون بديلاً ناعماً ومخففاً للخلافة الإسلامية التي لن يقتنع أحد ما بإمكانية عودتها، إذن فمفهوم الدولة الإسلامية بمصطلح الجماعة، أو مفهوم المجتمع الإسلامي - إن كان ثمة شك في أحد من الحاضرين - هو التصور القادم البديل لكل مظاهر الانحراف والمروق والفساد واقع الأمة! كما يستمد الفتى تصوراته وآراءه الناقدة الساخطة على واقع مجتمع وأوضاع أمته من سخونة وحرارة مقالات وتحقيقات وأخبار مجلة (المجتمع) الكويتية التي كانت تأتي مع جملة من المجلات الأخرى ليلاً إلى المكتبة، وينتظر الفتى سيارة البيجو القادمة من الرياض بعد صلاة العشاء ومكتبته الصغيرة مضاءة بأنوار إتريك الغاز البيضاء التي لا تكتفي بكشف محتويات المكتبة، بل تمتد لتضيء جزءاً من الشارع المتباعدة أعمدته المعلقة عليها الأتاريك تأتي سيارة البيجو محملة بالأطايب من الموزع الرئيسي لكثير من المجلات آنذاك فيأخذ الفتى نصف الكمية تقريباً ليوزعها في المعهد، ويبقي كيسين أبيضين للعملاء المعروفين المسجلين الذين سيتوافدون عصر اليوم التالي.

يلتهم في ليلته تلك أبرز العناوين والموضوعات على أمل أن يجد لها وقتاً مناسباً في اليوم التالي لكنه لا يمكن أن ينام قبل أن يقرأ صحيفتي الجزيرة والرياض، ثم مجلة المجتمع من الغلاف إلى الغلاف ومقالة الدكتور أحمد زكي رئيس تحرير مجلة (العربي) حديث الشهر، وأحياناً: مع الله في السماء، وهي سلسلة مقالات علمية رصينة، ولشدة ما كان معجباً إلى حد التقليد بأسلوب هذا المفكر القدير، بل قد يكون معجباً بكثير من أفكاره، كما كان لا يبدي إعجابه هذا بأفكار أخرى جميلة وعميقة يطرزها أسلوب سلس نادر للدكتور طه حسين، كان يخفي إعجابه بأحمد زكي لأنه أطرى حديثاً من أحاديثه في خلوة من خلوات البر لإخوانه فجابهته الجماعة بوابل من كلمات الانتقاد والسخط، متهمين إياه بعدم القدرة على الفرز، وبخلط ما هو سيئ بما هو صالح، فقد علم من تعليقاتهم الناقدة أنه غير إسلامي، ولا تحبذ القراءة له، ولا لمجلته (العربي)! وما كانوا يعلمون أنه لا يكاد ينقطع عن قراءة مجلة النهضة، وخطرات رئيس تحريرها المساعيد، ومجلة اليمامة، ومجلة الحوادث وتحليلات سليم اللوزي، بل أحياناً صباح الخير وكاتبها عبدالستار الطويلة، وروز اليوسف وكاتبها إحسان عبد القدوس وكانتا تقدمان هدية له من باب المقاضاة في مقابل مجلات أخرى يمنحها لمرافق مصري نجار ومثقف يسكن قريباً من منزل عائلة الفتى، ولم يكن محل ترحيب من والده بسبب هاتين المجلتين وبسبب آفة التدخين المبتلى بها!

عجيب أمر هذا الفتى، فهو يخلط عملاً صالحاً بآخر سيئ كما عنف إخوانه أعضاء الجماعة رئيس تحرير العربي (أحمد زكي) فعلى الرغم من وضوح شخصية الفتى الإسلامية الحادة الناقمة على الواقع وعلى وضع الأمة وعلى انحراف كثير من مظاهر المجتمع وعلى تبلد مشاعر كثيرين من أبناء جيله تجاه واقعهم وتجاه قضايا أمتهم، إلا أنه لا يملك صرف نفسه عن الاستجابة المنقادة لكثير مما تشتاق إليه نفسه، من ذلك عدم مقدرته على لجم رغباته في الاطلاع على ما تسميه الجماعة ثقافة غير إسلامية أو الكتب المنحرفة، وقائمتها طويلة جداً، لو استجاب للجماعة في الصد عن مفردات تلك القائمة لأحس بالاختناق ولما علم كيف يمكن أن يصبر على معين واحد؟! كانت القائمة السوداء الطويلة التي تضم الكتاب غير الإسلاميين في نظر الجماعة لا تكاد تبقي ولا تذر، فعلى رأس القائمة: طه حسين، نجيب محفوظ، وجبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، وإحسان عبد القدوس، وسهيل إدريس، ويوسف السباعي، ويوسف إدريس، وغيرهم كثيرون، يعجز المقام عن حصرهم، أما الكتاب والشعراء الإسلاميون الذين توصي الجماعة بالحرص على قراءة نتاجاتهم فهم: الإمام الشهيد حسن البنا، والمفكر الشهيد سيد قطب، ومحمد قطب، وفتحي يكن، وعصام العطار، وعلي الطنطاوي، ومحمد الراشد، ونجيب الكيلاني، ومصطفى صادق الرافعي، وحسن الترابي، وغيرهم كثيرون.

وهو أيضاً يخلط عملاً صالحاً بآخر سيئ، فقد اكتشف ضعفه أمام رغباته، فعلى الرغم من تربية والده الصادقة له، وأخذه له بالجد في سائر أموره إلا أنه - كما اكتشف ذاته وعلم من خبيئة نفسه - لم يكن أبداً وفي كل الأحيان في مستوى تلك الصرامة التي ربي عليها، ولا في مستوى تلك الجدية التي نشأ عليها، ولا - أيضاً - في مستوى ما تظهر به شخصيته الفتية الناشئة الجادة التي تبدو وفي سن أكبر مما هي عليه، وتظهر - مخالفة لما يضطرب به داخلها - بمظهر التقي الناسك الصالح الذي لا يمكن أن ينتظر منه الناس زللاً أو أن يسمعوا عنه قالة سوء!

هو يبدو كذلك، ولكنه في حقيقة أمره أهون بكثير مما يتصوره من حوله!! ولو علموا ما يجتاحه من عواصف وعواطف تتقاطع وتتصارع مع شخصيته المثالية المعلنة فلربما نزعوا منه ما أولوه إياه من ثقة لا يستحقها ومن تقدير ليس محلاً له!!

وقد يكون لهذا الاضطراب والتداخل والصراع في داخل الفتى ما يشي بما يكنه وجدانه وما تنطوي عليه خبيئة نفسه التي تجمع النقائض كلها، ولن يجد المتأمل الفطن مشقة في كشف ذلك القلق ولا في الوصول إلى معرفة جوانب الضعف والاهتزاز في شخصية الفتى الناشئة التي ستشب وهي غير قادرة على التخلص منها، ولا يريد حتى لأصفيائه والقريبين من نفسه أن يدخلوا إلى أغوار ذاته وما يخبئه في قرارها المكين من هواجس وظنون وشهوات ونزوات، وفي الاتجاه الآخر الأصيل الذي هو البناء الحقيقي لذاته وهو الصورة المعلنة الرسمية ما يقمع الصورة الكامنة المخبأة المستورة ويطمسها ويقصيها عن الأعين من صلاح وتبتل واستقامة وسعي إلى كل ما يرفع ذكره ويزكيه ويعلي من شأنه في نظر أهله ونظر جماعته التي لا ترضى أن ينزل درجة ولو صغرى عن مرتبته التي أحلته إياها وما ينتظره من أدوار مهمة ومؤثرة في سبيل تحقيق وجود المجتمع الإسلامي أو الدولة الإسلامية كما توصي إليه بين حين وحين!

ولطالما تساءل في قرارة نفسه: أيمكن أن يدرك الناس ما هو عليه من طوية متناقضة؟ ثم أيشبهه الآخرون أم هو يشبه الآخرين في هذه الاقترافات والرغبات المتخيلة؟ وهل يعصف بهم مثلما يعصف به؟ أم أن قدراته الدفاعية التي سعت الجماعة إلى تأسيسها بحيث تكون مضادات أرضية بالغة الصد عميقة الحماية لم تجد نفعاً.

قادته أحكام النافذين المؤثرين في أحد المخيمات على ضرورة بناء ذات إسلامية صلبة متأبية على الهزيمة متعالية على الشهوات إلى أن يطيل التفكير في حقيقة أمره، ومدى هشاشتها وضعفها في المقاومة ولا يجد خيراً من التكفير عن تكوينها الهش المتداعي أمام الهواجس الشريرة وأمام سيناريوهات الخطايا سوى الإقبال على مزيد من التبتل وتعذيب ذاته بإكراهها على المشقة والعنت في سبيل التطهر من أوزار التفكير الخاطئ والاستسلام لشهوات التخيل المحرمة.

لقد وجد في رحلة العمرة التي يستعد لها ويعبئ طاقاته الروحية المتعطشة إلى أن تغترف من المعين الأول خير ما يمكن أن يرقى بها إلى آفاق سامية عالية من النقاء والخلاص والتوحد والفردانية والتطهر.

كل الأمور مهيأة للانطلاقة الرائعة التي ينتظرها وقبل أسبوع واحد فقط من هذا التاريخ 13-3-1395هـ كان القياديان في الجماعة في زيارة مطمئنة مستأنسة لأبيه لأخذ موافقته، ولكن الأقدار تسير في اتجاه آخر لا يعلمه الفتى ولا والده ولا الجماعة ولا الناس من حولهم، فقد حدث في هذا اليوم الذي يفترض أن تبدأ بعده بيوم واحد رحلة مكة المكرمة حدث مأساوي هز المملكة والعالم الإسلامي كله ففي صبيحة ذلك الثلاثاء قتل الملك فيصل - رحمه الله - ووصل الخبر إلى كل أرجاء الدنيا ظهراً، وقلب هذا الحدث حياة الناس في تلك الأيام رأساً على عقب، ودب في النفوس شعور بالخوف والقلق من المجهول، وبدا وكأن البلاد وهي في حالة الشعور بالصدمة لا تعلم كيف يمكن أن تسير الأمور بدون حكمة وصرامة ذلك الرجل؟ مع أنه كان شعوراً أقرب إلى أن يكون نتاج قلق أو من أثر هول الصدمة، فقد تلاشى مع استيعاب الناس لهذا الحدث، وإيمانهم بالقضاء والقدر، وشعورهم بأن النظام السياسي في البلاد قوي وشديد السيطرة على كل شيء، عميق الوعي بكل المخاطر.

عقد الفتى العزم في ضحى اليوم التالي الأربعاء على أن ينطلق مع بعض رفقته في المعهد العلمي للصلاة عصراً على الملك فيصل، واللقاء بالجماعة التي لم يكن يعلم مدى تأثير هذا الحدث المؤلم عليها بعد!

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام - كلية اللغة العربية


ksa-7007@hotmil.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد