Al Jazirah NewsPaper Tuesday  14/07/2009 G Issue 13438
الثلاثاء 21 رجب 1430   العدد  13438

حتى لا نكون كفقهاء بيزنطة..!
د. حسن بن فهد الهويمل

 

الذي يخطئ فهم الحرية بكل تشكلاتها العقدية والتعبيرية والسلوكية كالذي يجهل شروطها وإمكانية ممارستها وتنوعها وفق حضارة الانتماء، ولأن الحرية بحد ذاتها مسؤولية، فإنها في النهاية كأي ممارسة..

بحاجة إلى أجواء وإمكانات وثقافة، وممارسة الفعل أو القول في ظل الفهم الخاطئ أو الجهل المستحكم تدمير لثوابت الأمة ومثمناتها وتكريس للفوضوية غير الخلاقة وتنشيط لردود الأفعال الإجهاضية، وغفلة ذوي الشأن أو انشغالهم بما دون النجوم أو تغافلهم عما ينتاب الأمة من تماكر يفت في العضد ويربك المسيرة ويخلي الثغور للمتربصين والمتسللين، ومن ثم فإن الحرية ليست في مطلق القول.

والمتقحمون لعويص المسائل وغياهب الفكر ومعامع السياسة دون تزود بفقه الأولويات والتمكين والأحكام والواقع وقواعد اللعب السياسية، إن هم إلا عبء يضاف إلى الأعباء، وعقبة كأداء تعترض سبيل السالكين.

والألفّ الأعزل هو الذي يهتاج ليلقي بنفسه وبأمته في التهلكة والفارغون من الهم والمعرفة والتجربة كلما دعوتهم لما يحييهم لجوا في عتو ونفور وفي ظنهم أنهم سيقوا إلى أمتهم على قدر وأنهم هبة السماء للأرض، وما هم بخارجين من لجاجتهم التي تفوق لجاجة (الخنفساء) و(الحمى) و(الذباب) كما تقول الأمثال العربية، وكأن الشاعر عناهم بقوله:

(لنا صاحب مولع بالمراءِ

كثير الخطاء قليل الصواب)

(أشد لجاجاً من الخنفساءِ

وأزهى إذا ما مشى من غراب)

والمشاهد الفكرية والعلمية والسياسية والاجتماعية لا يروّض جماحها ولا يحفظ توازنها إلا المفكرون الناصحون والعلماء الورعون والخبراء المجربون، فهم وحدهم الذين يبادرون النوازل في الوقت المناسب ثم لا يتعجلون في ردود الأفعال ولا في ابتسار الأحكام، بل يديرون مجمل قضاياهم بالحلم والأناة وعلى ضوء مقتضيات الأصول، وإذا تخلفوا عن شأن أمتهم في الساعات الحرجة بادرها اغيلمة أحداث أو كهول متصابون يتسرعون بالأحكام دون روية ويقولون منكراً من القول وزوراً يتراشقون مع خصومهم ببذيء الكلام، وكل واحد منهم يدعي لنفسه المعرفة والأهلية والعصمة والنزاهة ولخصمه الجهل والتطفل والخطأ والموطأة ضد مصالح الأمة. وحين يغالب المجتمع سائر المعضلات ثم لا يبادرها أهل الحل والعقد والدراية والرواية بتوقيت دقيق وتقدير محكم تهن الأمة وتحزن، وتصبح قابلة لهيمنة الآخر والتدخل في شؤونها الداخلية، والراصد للواقع العربي يجد غياباً موهناً أو حضوراً غير سديد، والمخدوعون ببريق الحضارات المادية يظنون بأهلهم وحضارتهم ظن السوء، ويتلقون ادعاء الأعداء بقبول حسن، وكأن الله خلقهم لاتباع الآخر واقتفاء أثره حذو القذة بالقذة، والمشتغلون بالقشور والتوافه والمتناجون بالإثم والعدوان والمصطرعون حول اللعاعات يصرفون الأنظار عما تفيض به أوعية الأمة من مشاكل تحز إلى العظم ولو أخليت الساحة لذوي المعرفة والخبرة وهيئت الأجواء وأمنوا على سمعتهم لواجهوا المشاكل برباطة جأش وتداولوها فيما بينهم وخرجوا بحلول تقيل العثرة وتدرأ عن الأمة سهام الأعداء.

وإذا قبلنا من دهماء الكتاب ومبتدئيهم تداول الحديث حول توافه الأمور فإن على النخب أن يعدوا أنفسهم للنفائس التي تملأ الرحب، ومن المؤسف أن طائفة ممن يرون أنفسهم أهلاً للصدارة الفكرية تستهلكهم توافه القضايا التي فرغت منها المشاهد العربية من عشرات السنين، وإذا تناولوها كانوا كمن يحذر قومه من عدو قادم بحيث يبدو الاحتدام وتعلو النبرة والتوتر ويظنون أن التفريط في مثلها تفريط بجناب التوحيد، وما هي في حقيقة الأمر إلا وسيلة سادت ثم بادت، وسأضرب مثلاً ب(السينماء) و(رياضة المرأة) و(مهرجان الغناء في سياحة أبها)، وتلك قضايا تذكرني بما أشار إليه (أحمد حسن الزيات) في إحدى مقالاته في (وحي الرسالة) وهو يتناول ما يشغل الرأي العام في زمانه، إذ تساءل عما ينتظره المجتمع من مشاكل تافهة تلهيه عن كل مكرمة بعدما تجاوز جدل مشروعية (المحاريب) في المساجد وإشكالية (المحمل) في الحج، فالكاتب يعيب على وسطه استنزاف جهوده في قضايا يمكن حسمها عن طريق المؤسسات المعنية، فيما يستدبر قضايا مصيرية يؤدي إهمالها إلى سقوط كرامة الأمة وضياع مثمناتها وهوانها على الناس، وما نجتره في وسطنا من قضايا لم تعد حاضرة المشاهد العربية لأنها مسلمات أو هي مما عرف من الدين بالضرورة، فالمنع أو الإباحة أو الإرجاء إلى حين من حق السلطة التشريعية التي تستمد أحكامها من مقاصد الشريعة الإسلامية مستشعرة المباح الممكن وغير الممكن وسد الذرائع ودرء المفاسد وتحقيق المقاصد وسائر مصادر التشريع الثانوية كالاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب وناظرة في التداعيات التي لا تندرج ضمن الحكم الشرعي من حل وحرمة.

والمتهافتون على اللغط يتوسلون بحرية التعبير، ويجهلون حق المؤسسات المنوط بها تلقي الأحداث والوقوعات والنظر في المحظور والمباح الممكن وغير الممكن.

وحين تستأنف النخب ما فرغ الناس منه وتأتيه من حيث ابتدأ الأولون يفوتهم الركب وينظر السابقون إليهم بشفقة وفوقية، ولاسيما أن المشاهد تفيض بالقضايا الأهم داخلية وخارجية والأمة مكتنفة بمعضلات هي أربى من تلك الأشياء المهترئة، ولقد عيب على (فقهاء بيزنطة) جدلهم العقيم حول البيضة والدجاجة فيما تقف على أسوار مدينتهم جحافل الجيوش المدججة بالسلاح، وليست بلادنا المستهدفة في ظل الأوضاع العربية والعالمية المأزومة بأحسن حالاً من بيزنطة.

و(السينماء) بوصفها قضية الساعة في مشهدنا وجوداً وعدماً لا تشكل عتبة في طريق التنمية، ولا تعد من مشاكل الساعة، ثم إنها من مخلفات العقود الخوالي ومن المظاهر التي سادت ثم بادت إذ جاء ما يغني عنها، والاختلاف حولها لا يؤدي إلى استدبار القضايا المصيرية وإن كان ثمة حاجة إلى استدعاء مثل هذه الظواهر الترفيهية فلتبادرها مؤسسات الدولة ك(وزارة الثقافة والإعلام) و(الهيئة العامة للسياحة) و(هيئة كبار العلماء) و(إدارة البحوث والإفتاء) وهذه المؤسسات تتداول الرأي حولها، وتخرج إلى الرأي العام بموقف يحسم الخلاف، وهي ذات الشأن في المجتمع المدني القائم على المأسسة.

والمؤاخذة ليست لمجرد الإثارة ولكنها في التلاحي المستمر وتهويل الأمور والانقطاع لمثل هذه الظواهر الثانوية وتصنيف الناس بين متشدد ومتسامح ووسطي ومتطرف، ومتى توسل أي متردد برأي معتبر أو اجتهاد مشروع فإن واجب الأطراف الأخرى احترام رؤيته لأنه شريك في السفينة ولأن له معوله، والاختلاف لا يقتضي التصنيف ولا التحذير، وعند احتدام الجدل لا بد من نهوض مرجعية تشريعية للحسم والعزم في الوقت المناسب. وإلا طال المراء والتناجي الآثم، والحرية ليست في أن تطاع ولكن في أن يحسم الأمر لصالح الأمة بوصفها محكومة ب(أيدلوجية) تضمنتها مواد نظام الحكم. إذ الناس لا يصلحون بالفوضى تحت أي مبرر.

وعلى كل الافتراضات أين المتشنجون حول تلك الظواهر من المد الطائفي وصراع المصالح والتدخلات السافرة وانكشاف (أجندة) غير عربية تحاول سلب الأمة العربية أبسط حقوقها ومصادرة سيادتها الإقليمية؟

وأين هم من خلل الوحدة الفكرية وتفرق المفكرين بين مبادئ ومذاهب ليست من الإسلام، وليست من العروبة في شيء؟ وأين هم من طوفان العولمة وثورة الاتصالات التي حولت العالم من قارة إلى قرية ومن قرية إلى غرفة صغيرة؟ وأين هم من الأزمات الاقتصادية الطاحنة والانهيارات المخيفة لكبرى الشركات والبنوك؟ وأين هم من الانفجارات السكانية وأزمة الإسكان؟ وأين هم من الفراغات الدستورية وما خلفته من فتن عمياء طالنا دخنها؟ وأين هم من مؤتمرات الكبار التي تلغي حقوقنا ووجودنا الكريم؟

إن على المفكرين والعلماء وزعماء الإصلاح وحراس القيم مبادرة الحراك المشبوه والتصدي لمخاضات اللعب السياسية وحراك الغزو والتآمر المتقنع بسربيات يحسبها الظمآن ماء.

فالكلمة سياج، والأمة المستهدفة تتضاعف واجبات نخبها ومن الخير أن نستبق الأحداث قبل وقوعها، ولن يتأتى لنا ذلك ونحن في شغل شاغل في ثانويات لا تقدم ولا تؤخر.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد