Al Jazirah NewsPaper Monday  13/07/2009 G Issue 13437
الأثنين 20 رجب 1430   العدد  13437
ماذا سيبقى من فكرنا التقليدي والحداثي؟
د. عبدالرحمن الحبيب

 

السؤال التقليدي حول أيهما أسبق في التأثير على الواقع: العوامل الفكرية أم العوامل المادية، يواجه مأزقاً حاداً في زمننا الحاضر، الزمن الإلكتروني وما يصاحبه من الثورة المعلوماتية وثورة الاتصالات العالمية حيث اختلط الفكر بالمادة.. صار الفكر نفسه اقتصاداً والمادة منتجة مباشرة للفكر.. إنه اقتصاد المعرفة أو مجتمع المعرفة.

إنه العصر الإلكتروني: البرمجة، التكنولوجيا، المعلومات، الرقميات، والشبكة العالمية للاقتصاد الجديد.. هنا نجد مدارس بلا مدرسين، وتعليما بلا معلمين، وترجمة بلا مترجمين، وصحفا بلا ورق، ومكتبات بلا كتب.. فكراً تنتجه الآلة، ليواجه المفكرون المثاليون تحدياً حقيقياً في مسألة تشكل الفكر داخل المادة. وبالجهة المعاكسة نجد مصانع بلا عمال وأشرطة معرفية وبرامج حاسوبية تنتج أعمالاً وقوة عمل ليواجه الفكر الماركسي الكلاسيكي ضربة قاصمة في مقولة سيطرة طبقة العمال..

كل الاقتصاد الرأسمالي التقليدي يواجه الآن مأزقاً، فالعوامل الثلاثة الأساسية للإنتاج الرأسمالي التقليدي (الأرض والعمالة ورأس المال) ظهر بدلا منها: المعرفة الفنية، الإبداع، الذكاء، المعلومات، وصار الذكاء الصناعي الإلكتروني (البرمجة الحاسوبية والتكنولوجيا) ينافس رأس المال والمواد والعمالة في مجتمعات ما بعد الصناعة.. حتى أصبح العقل الإلكتروني يفكر عنك ويتوقع لك من أحوال المناخ إلى أحوال سوق الأسهم!

ماذا سيجري للسؤال القديم: هل الظروف والعوامل المادية هي التي تنتج الفكر (كما يقول الفكر المادي)؟ أم أن الفكر هو الذي يطور واقعنا المادي (كما يقول الفكر المثالي)؟ إذا كان الصراع بين هاتين الفكرتين واضحاً منذ ظهرت الفلسفة فإن صياغة السؤال بهذه الطريقة قد لا تكون مناسبة في القرن الواحد والعشرين.. إذا كنا نقول إن الحاجة أم الاختراع، فذلك يعني أن العوامل المادية هي المحركة للتفكير والفكر والتطور. ولكن ليس بهذه البساطة: فأنت عندما تخترع مادة معينة هل اختراعك ناتج عن فكرك أم أنه ناتج عن الواقع والظروف المادية التي حولك؟ هل المواد التي حولك توفر لاختراعك إمكانية التحقق؟ هل الظروف الاجتماعية التي حولك تتطلب التفكير بمثل هذا الاختراع؟ أم أن فكرك المجرد الفذّ الملهم هو الذي استدعى الفكرة من تركيزك في التفكير لتطلق صيحة أرخميدس التاريخية: وجدتها.. وجدتها!!

هيجل يرى أن العالم يتطور تاريخيا بسبب تطور الأفكار، فالقوة المحركة للتاريخ هي ما يطلق عليه فكر العالم: فالتاريخ سلسلة ممتدة من الأفكار، كل فكرة جديدة تصطدم بالقديمة، وهذا الاصطدام ينتج عنه فكرة ثالثة.. أو ما يسميه هيجل التطور الجدلي (الديالاكتيك).. مثلاً فكر ديكارت العقلاني نقضه لاحقاً فكر هيوم التجريبي، ليأتي كانط ويدمجهما معا ناقضاً أجزاء منهما وجامعاً أجزاء أخرى في أطروحة جديدة، لتتعرض بدورها بعد ذلك لمن ينقضها (وهو هيجل) ويجمع الأفكار الثلاثة في طرح جديد.. وهكذا دواليك يتطور التاريخ عبر تطور الأفكار: طرح ثم نقض الطرح ثم الدمج والتفاعل بينهما..الخ.

ولمتابعة السلسلة يأتي ماركس (المادي) ويتفق مع هيجل (المثالي) في أن التناقض بين العناصر هو المحرك للتطور، ولكنه ينقض فكرته ويقلبها رأساً على عقب بأن المحرك للتاريخ وتطور المجتمعات هو تغير ظروف الحياة المادية، وليست الظروف الفكرية أو الروحية. فالظروف المادية (خاصة الاقتصادية) هي التي تعمل على التغيير الاجتماعي ومن ثم تحدد الأشكال الفكرية والروحية. الظروف الاقتصادية والاجتماعية هي القاعدة (البنية التحتية)، بينما الفكر والسياسة والقوانين والأخلاق هي البنية الفوقية التي تتأسس على البنية التحتية. ولكن ماركس لا يطرحها بهذا التبسيط الآلي بل يرى أن هناك تفاعلاً متبادلاً يجري بين البنيتين..

ويمكن القول إن فكر العالم ومدارسه الفكرية في القرن العشرين مالت مع مقولة إن الاقتصاد هو محرك التطور، رغم أن كثيراً من هذه المدارس ترفض الفكر الماركسي بشكل كامل أو جزئي.. هذا القبول العام لدور الاقتصاد الأساسي لم يمر دون تحد.. فمع بدايات القرن العشرين طرح ماكس فيبر أطروحته عن الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية التي هزَّت الفكر الاجتماعي..

ورغم أن أغلب المفكرين والمثقفين اعتبر أطروحة فيبر نقيضة لأطروحة ماركس، أي وضع العوامل الروحية في مواجهة المادية، فإن فيبر نفسه ينفي ذلك. إذ ترتكز أطروحته في أن الطقوس اليومية للبروتستانتية وما يصاحبها من عادات وتقاليد وقيم تفسر سيطرتها على حياة الأفراد التي دعمت السلوك الرأسمالي؛ حيث الفرد يستجيب في تحصيله الثروة لنداء أخلاقي (نداء ديني)، مع تجنب استخدام الثروة في الملذات الشخصية..

وهنا يذكر لوران فلوري (2001م) أن فيبر مُسِخ، عن غير حق، إلى صورة نقيضة لماركس، باختزال نظريته تفسيراً للاقتصاد بالدين، غير أن مشروع فيبر أمر مختلف تماما: فهو سعى إلى أن يبرهن على أن تصرفات الأفراد لا تُفهم إلا إذا أخذت بالاعتبار تصوراتهم في فَهم العالم، وهي تصورات تشكِّل المعتقدات الدينية جزءاً أساسياً منها. وقد يدهش المتابع إذا علم أن فيبر في عام 1920 ذكر للفيلسوف شبنغلر أن: (نزاهة المثقف يمكن أن تقاس بموقفه من نيتشه وماركس، فالعالم الذي نعيش فيه ثقافياً هو في جزء كبير منه، من صنع ماركس ونيتشه).

والآن في مرحلتنا الراهنة ماذا بقي من الفكر الجدلي لهيجل (المثالي) وماركس (المادي)؟ يرى المفكر ما بعد الحداثي جان بودريار أن ثورة الاتصال الإلكترونية العالمية قد دمرت المفاهيم القديمة للعالم.. فالعوامل الاقتصادية التي سيطرت على فكر العالم بعد ماركس لم تعد بذات الطريقة السابقة في تشكيل المجتمعات فكراً وبناءً.. روحاً ومادة.. أصبحنا نتأثر أكثر بثقافة الإنترنت وشبكاتها العولمية والفضائيات.. وأصبح التأثر بالصور والإشارات المتدفقة دون هوادة في وسائل الاتصال الجديدة هو المسيطر على المشهد العالمي..

لقد انتهى المجتمع الصناعي الحداثي النمطي وظهر مجتمع ما بعد الصناعة.. حيث المعلوماتية ووسائل الاتصال والتكنولوجيا هي المؤثرات الرئيسية في تنظيم الاقتصاد وإدارة عملية الإنتاج، وليس قوى الإنتاج المادية المباشرة أو العمال.. وزاد الاعتماد على المعرفة والمعلومات، إذ يقدر نصف نمو الإنتاجية في الاتحاد الأوروبي كنتيجة مباشرة لاستخدام وإنتاج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.. وأكثر من ثلثي العمال في الدول المتقدمة هم عمال معلومات؛ وصار عمال المصانع يستخدمون عقولهم أكثر من أيديهم (ويكيبيديا).

اقتصاد المعرفة يعتمد على توافر تقنية المعلومات والاتصال واستخدام الابتكار والنظم الرقمية، على خلاف الاقتصاد الرأسمالي التقليدي المبني على الإنتاج، حيث تلعب المعرفة دوراً أقل.. مما يجعل المجتمعات المتطورة تعيش مأزقاً حضارياً خطيراً في صياغة مفاهيم وتصورات جديدة حول العالم، إلا أن المجتمعات النامية تعيش مأزقاً مضاعفاً وأشد خطورة حيث تختلط الحداثة بما قبلها وبما بعدها، ولا يتضح ما هو المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي ولا التغير الاجتماعي.. ولا من يسبق من: المادة أم الفكرة!!




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد