كنت أستمتع بتصفُّح العدد الثاني الصادر من المجلة الدورية التي تصدر عن المركز الخيري لتعليم القرآن وعلومه بالرياض (بصائر) في سنتها الأولى، وأتجَّول بين موضوعات هذا العدد المتميز، وأخبار مراكز القرآن الكريم وجمعياته المتنوعة، والعدد حافل بموضوعات وقضايا تستحق القراءة لما فيها من الجديد المفيد، وكان من أهم الموضوعات التي استوقفتني ودعتني إلى قراءتها قبل غيرها موضوع (دارفور المؤمنة.. آلاف الصدور تحمل كتاب الله عز وجل ولا تصل إلى العالم إلا أنباء عصيانها المفترى) لأن قضية (دارفور) السودانية تتصدَّر أخبار وسائل الإعلام منذ فترة من الزمن، ويدور حولها صراع كبير يوحي بأن لدارفور أهمية خاصة وبعداً سياسياً يخفى وراء هذه الضجة الإعلامية كلِّها.
لقد عرضت مجلة (بصائر) -أنار الله بصيرة من اختار لها هذا الاسم الجميل- قضية دارفور عرضاً متميِّزاً عن كل ما تعرضه وسائل الإعلام المختلفة عن هذه القضية، ونشرت تقريراً صحفياً يستحق القراءة والاهتمام.
تقول مقدمة التقرير: لم تعد تصل إلى آذاننا وآذان العالم عن دارفور إلا أخبار نزاعاتها وتمردها من قبل القنوات الرسمية، وأخبار مجاعاتها وتردِّي ظروفها الإنسانية من قبل المنظمات الدولية وقوى التمرُّد الأهلية، ووسط هذا الصخب والضجيج العارمين فقدنا جميعاً آثار (دارفور) الإسلامية، دارفور المؤمنة الصادقة، التي قد يتصوَّر البعض -خطأً وجهلاً- أنه لا يسكنها سوى جماعات من الوثنيين واللادينيين الذين نشاهد صورهم عَبْر الفضائيات يحملون الأسلحة على أكتافهم، كما يتصور بعضنا -جهلاًً- أن دارفور لا يسكنها سوى جماعات النساء اللاَّتي يجلسن بائساتٍ إلى جوار أبنائهن المحتضرين من أثر الجوع والمرض.
وهنا نتساءل: هل هنالك وجه آخر لدارفور؟ ويجيب تقرير مجلة البصائر ب(نعم)، هنالك وجه دارفور المشرق باليقين، الوجه النوراني المسلم الذي لم تستطع النزاعات أن تطفئ نوره، ولم تستطع المجاعات أن تنتقص من إيمانه، ولم تستطع الاحتقانات أن تصرفه عن وجهته القرآنية.
ويشير التقرير إلى أن الإسلام قد دخل إلى دارفور في القرن الثامن الهجري منذ سَلْطَنة (الداجو) وسلطنة (التنجر)، قدم إليها الإسلام من شمال إفريقيا وشمال غرب إفريقيا، ثم نزح إليها العلماء المسلمون من سودان وادي النيل، ولسلطنة (التنجر) أوقاف بالمدينة المنورة منذ عهد السلطان أحمد رفاعة التنجراوي، وقد تم العثور على أنقاض جوامع بمدينة أروى حاضرة سلطنة التنجر شمال دارفور بالقرب من مدينة (عين فرح) الأثرية، وهي مدينة عريقة تعد إقليماً جغرافياً متميزاً وسجلاً لتاريخ الحضارة الإسلامية في دارفور.
لقد دخلت دارفور إلى واحة القرآن الكريم من أوسع أبوابها فقد، اعتنى مؤسس سلطنة (الفور الإسلامية) السلطان سليمان سلونق ببناء المساجد وفتح المدارس وتعمير الخلاوي بالمدن والقرى، حتى أصبح في كل مدينة وقرية عدد من المساجد تقام فيها حلقات تحفيظ وتعليم القرآن الكريم، وهي حلقات يديرها علماء فضلاء قدموا من تمبكتو -غرب إفريقيا- ومن دار شنقيط، ومن سلطنة البرنو، وسلطنة باقرمي، والمغرب العربي، ومصر، وتونس، وفزان، والحجاز وسودان وادي النيل، حتى اشتهرت دارفور بأنها بلد القرآن الكريم، لما عُرف عن ولاتها وعلمائها من تعظيم للقرآن، ودعمٍ متواصل لحفظه، حتى أصبح من المتعارف عليه اجتماعياً أن المؤهِّل الأول لتزويج أي شاب أن يكون من حفظة كتاب الله عز وجل.
لقد ظلَّت دارفور بلداً مسلماً فترة طويلة من الزمن، حيث كان جميع سكانها من المسلمين، وظلَّ القرآن الكريم هو القاسم المشترك بين القبائل العربية والإفريقية التي تسكن المنطقة، وهو الحكَمُ بينهم فيما يثور من نزاعات، لقد اهتم سلاطين دارفور بالعلم والعلماء، وعُرف عنهم اهتمامهم في حقبة من الزمن بكسوة الكعبة المشرفة، وما تزال أوقافهم معروفة في الأراضي المقدسة وأشهرها (آبار علي) على الطريق بين مكة والمدينة المنورة، والمقصود بعلي هنا السلطان (علي دينار) أحد سلاطين دارفور.
ما زال القرآن الكريم -برغم الأحداث الجارية- هو الحبل المتين الذي يربط تاريخ دارفور وماضيها التليد بحاضرها المتوتر، فما أجدر المسلم بالنظر إلى هذا الجانب المشرق ودعمه بما يستطيع، ولو بنشر المعلومة الصحيحة عنه.
تحية لمجلة (بصائر) التي بصّرتنا بهذه القضية المهمة.
إشارة:
أيُّها الصَّرْح، في ذراك شدا المجد وغنّى الإباءُ منك ونادى.