المتتبع للحالة الاجتماعية الأسرية السعودية، وتحديداً العلاقة بين أبناء وبنات الأسرة الواحدة، وحتى أفراد العائلة برمتها يجد أنها في تشرذم وتنافر، بل وحتى قطيعة مؤقتة، أو دائمة لأسباب
لا تستدعي أن تكون سبباً للانشقاق، والفرقة.
والشحناء، والبغضاء لمن يلفهم معصم الأخوة والدم، والشراكة الأبوية، والنشأة في ظل كنف بيت عائلي واحد. ولعل هذا التنامي في مشهد العلاقات بين أفراد الأسرة السعودية الواحدة بتبعاتها التي أحدثت تصدعاً وشرخاً في منظومة تلك العلاقة يستدعي التوقف لمناقشته وسبر أغوار أسباب بروزه على السطح بشكل لافت مؤخراً، وكذلك الوقوف ملياً عند انعكاساته الخطيرة.
ويبدو أن أحد الأسباب التي تؤدي إلى ذلك نزعة السيطرة التي تستهوي وتستولي على عقول الأبناء والبنات الذين يرون أن لهم الحق المطلق لوحدهم دون غيرهم من أفراد الأسرة الآخرين في رسم مسار الأسرة، والانفراد في اتخاذ القرارات المصيرية فيها استناداً إلى أعذار واهية لا تسقيم وواقع الحال، وما تقتضيه مصلحة الأسرة العليا. والتمسك بذلك والاعتقاد بصحته، أو بالأحرى العمل بموجبه يؤدي لتهيئة أجواء تقود في نهاية المطاف لتباعد أبناء الأسرة الواحدة، وخلق حالة الشعور بالإقصاء من قبل من أفراد تم استبعادهم وهو الأمر الذي يجعلهم لا يكترثون بأمر الأسرة وشؤونها؛ لأنهم يشعرون بالتهميش، وعدم الاحترام والتقدير لمكانتهم، ولما يحملون من رؤى وأفكار ربما تكون الأنسب للعائلة من تلك التي يقوم بفرضها ثلة قليلة من أفراد الأسرة.
والسبب الآخر الذي يؤدي إلى التشرذم والتشتت الأسري انعدام ثقافة الغفران والتسامح، فهناك العديد من أبناء وبنات الأسر من يجتر في كل مكان ومناسبة موقفاً، أو حدثاً تم بين أفراد الأسرة في وقت وظرف ما، ويعمل بكل ما أوتي من قوة على تأجيج وتعميق الشرخ العائلي بالتذكير الدائم بما حصل سابقاً، وإلقاء اللوم على هذا الفرد، أو ذلك، والتعامي عن دوره فيما حدث. وهذا بلا شك يجعل أجواء الأسرة مشحونة بالغضب، والتوتر والكره الدائم، ولذا يحرص أفراد الأسرة بسبب هذا السلوك على ألا يجمعهم سقف واحد، ويبحثون دوماً عن مبررات وأعذار يسوقونها حتى لا يكون هناك فرصة للقاء أبناء الأسرة، والتواصل فيما بينهم.
وإلى جانب هذين السببين يأتي أمر آخر يتمثل في حرص البعض على الاستئثار بمحبة واحترام رأس الهرم في الأسرة الواحدة من خلال سعيه، أو (سعيها) الدؤوب لتكريس الصورة السلبية لأفراد الأسرة الآخرين في ذهن كبير الأسرة من خلال تتبع هفوات هنا وهناك وتضخيمها، بل وربما يلجأ لاختلاق معلومات مغلوطة مكذوبة من أجل أن يحظى بمحبة رأس العائلة، وليظهر أنه، أو (أنها) الوحيد الذي تهمه مصلحة العائلة، أو أنه لوحده من يستحق محبته وتقديره. وهذا يؤدي بدوره إلى جعل رب الأسرة يعامل أبناءه بشكل فض بناء على ما تلقفه من أمور سلبية تم تقديمها له من خلال هذا الطرف، أو ذاك من أبناء الأسرة الذين جعلوا الاستئثار بقلب رب الأسرة فوق كل اعتبار. والمحصلة النهائية لتصرف كهذا أنه يخلق حالة عداء، وانعدام ثقة بين أفراد الأسرة وبالتالي تباعد المسافات بينهم.
ثم يأتي بعد ذلك سبب آخر مبعثه موقف الفرد الذي استقل عن منظومة الأسرة وقام لتوه بتكوين أسرته الخاصة به؛ إذ نجده بسبب ذلك يحاول جاهداً النأي بنفسه عن كل ما له مساس بأسرته وهمومها حتى ولو توجه له أفراد الأسرة بطلب المساعدة والنصح، والمشورة، والعون فلا يجدون إلا آذاناً صاخة معرضة ترى أن ما يجب أن يشغله فقط هم زوجة، أو زوج، أو ابن هنا وابنة هناك. وهذه الأنانية والتملص من مسؤولية الأخوة مدعاة لنشوء جو من النفور والتباغض والتباعد بين أفراد الأسرة الواحدة التي يجب أن يكون همها وشاغلها مشترك مهما تكاثرت المشاغل والأعباء، وقام الفرد بتكوين أسرة مستقلة بذاتها.
ومن أهم الأسباب يأتي تفضيل الصمت، وعدم البوح خارج نطاق ضيق لما يجري للعائلة من أحداث ومواقف، والنتيجة الحتمية لذلك تكمن في انعدام التواصل بين أفراد الأسرة ومن ثم فتح الباب على مصراعيه أمام محاولة تفسير الأحداث والمواقف والذي دائماً ما يغلب عليه المنحى السلبي، أو لنقل التفسير السلبي. وفي ذات السياق نجد انعدام ثقافة الحوار لها دور أيضاً في إذكاء روح التباعد بين أفراد الأسرة الواحدة؛ لأنه بدونها تنعدم أداة تقريب وجهات النظر، وتبادل الرأي ومن ثم إشاعة روح الحب والود. وهذان العنصران أيضاً يؤديان إلى الرفض التام للمكاشفة والمصارحة للأخطاء والسلبيات التي يرتكبها بعض أفراد الأسرة ومن ثم متى ما علا الصوت أو الأصوات مطالبة بالوقف ملياً عند تصرف أو رأي ما، ومحاسبة المخطئ أو لنقل مصارحته وتنبيهه إلى الخطأ الذي ارتكبه إلا وقامت الدنيا ولم تقعد بسب أن أحد أفراد الأسرة قام بمصارحة بقية أفراد الأسرة بالخطأ المرتكب من قبل أحد أفراد الأسرة.
وهكذا نجد أن موضوع التفكك الأسري منبعه العديد من الأسباب التي يأتي على رأسها الرغبة الجامحة في الاستئثار في الرأي والقرار، وانعدام روح التسامح والغفران، والسعي لامتلاك قلب وعقل رب الأسرة بطرق غير مشروعة، ومحاولة الابتعاد عن الأسرة وشؤونها بدافع الاستقلالية بسبب الخروج من منزل الأسرة الكبير، وكذلك عدم التواصل وانعدام الحوار بين أبناء وبنات الأسرة الواحدة. وأهمية هذا الموضوع نابع من أن تأثيره لا يتوقف عند حدود أسوار الأسرة، وإنما يمتد أثره ليطال المجتمع بأسره؛ لأن الاسرة بمثابة الخلية الاجتماعية الأولى والتي متى ما كانت مستقرة ومتماسكة فهذا يعني صلابة في البنيان المجتمعي، ومتى ما حدث العكس فإن الأسرة المشرذمة المفككة تشيع في المجتمع سلوكاً غير سوي يستشري داؤه فينخر في بناء وأساس المجتمع ووحدته وتماسكه.