من المسائل التي ورد الحديث عنها في خطاب الرئيس الأمريكي أوباما في القاهرة؛ موجهاً إلى المسلمين مزخرف القول ما تعرض له اليهود؟
وبخاصة ما ارتكبه النازيون ضدهم. وسواء كان عدد الذين أبيدوا منهم هو العدد الذي روّجه إعلامهم الذكي..
.. أو كان مبالغاً فيه فإن كثيراً من السياسيين الغربيين قد قبلوا ما روجه ذلك الإعلام أو اضطروا إلى إعلان قبولهم إياه خوفاً من نفوذهم المعروف. وعلى أي حال فإن ما ارتكبه النازيون كان جريمة منكرة، لكن ما دخل العرب المسلمين بارتكاب تلك الجريمة حتى تستغل مبرراً لظلم يرتكب ضد هؤلاء العرب والمسلمين أو يسوقه الرئيس أوباما في إشارته المخففة وطأً إلى ما حاق بالفلسطينيين من ظلم؟
لقد أوضح الملك عبدالعزيز، رحمه الله، للرئيس روزفلت أن مقتضى المنطق والعدل أن من ارتكب الجريمة هو الذي عليه أن يدفع جزأ ارتكابها، وأنه ما دام النازيون في ألمانيا هم الذين ارتكبوا جريمة ضد اليهود فإن عليهم التكفير عن ارتكابها في بلادهم لا أن يبتلى الفلسطينيون بتهيئة الطريق أمام اليهود كي يحتلوا فلسطين، ولقي ذلك الملك الشهم ربه دون أن يقبل شرعية الوجود الصهيوني على شبر من أرض فلسطين.
على أن نشاز أصوات بدأت تظهر في الآونة الأخيرة بأفواه منظرين وأقلام كتاب من أبناء وطنه تخطئ موقفه النبيل وإن لم تجرؤ على ذكر اسمه صراحة.
ومن المسائل التي وردت في خطاب الرئيس أوباما ما تعرض له الفلسطينيون واليهود؛ إذ قال هذا الألمعي: (إن توجيه اللوم أمر سهل؛ إذ يشير الفلسطينيون إلى تأسيس دولة إسرائيل وما أدى إليه من تشريد لهم، ويشير الإسرائيليون إلى العداء المستمر والاعتداءات التي يتعرضون لها داخل حدود إسرائيل وخارج هذه الحدود). ثم قال في موضع آخر مظهراً موقف الفلسطينيين: (من يطلقون الصواريخ على الأطفال الإسرائيليين في مضاجعهم أو يفجرون حافلة على متنها سيدات مسنات).
ومرة أخرى لا أظن أن ألمعياً مثل ذلك الرئيس يخفى عليه أن تلك المقارنة لا يقبلها المنطق ولا العدل. لكن صدورها من رئيس أمريكي ليس بمستغرب. وكيف يستغرب ممن يقول؛ وهو يخاطب المسلمين: (إن متانة الأواصر الرابطة بين أمريكا وإسرائيل معروفة على نطاق واسع، ولا يمكن قطع هذه الأواصر أبداً. وهي تمتد إلى علاقات ثقافية وتاريخية).
أجل. لا أظن أن تلك المقارنة يخفى على الرئيس أوباما أنها بعيدة عن المنطق والعدل. ذلك أن إنشاء الدولة الصهيونية على أرض فلسطين كان بحد ذاته جريمة ضد أهلها، وكان تحقيقه قد تم بارتكاب مجازر ضد السكان الأصليين ذكرها بافتخار مناحيم بيجن في كتابه الثورة، لكن الرئيس المحترم أوباما أبى إلا تفادي ذكرها. وأنى له ذكر جرائم ارتكبت ضد الفلسطينيين قبل ستين عاماً وهو لم يستطع، أو لم يشأ، ذكر مجازر لم تجف دماؤها؛ مثل مجزرة غزة؟
وإذا كان بيجن قد ذكر أن إرهاب الصهاينة للفلسطينيين كان السبب القوي في قيام الدولة الصهيونية فإن رئيس تلك الدولة عند قيامها، بن جوريون، قد قال لجولدمان، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، عندما رفض زعماء العرب حينذاك قبول قيام دولته على أرض فلسطين: (لو كنت زعمياً عربياً لما عملت تسوية مع إسرائيل أبدا. وهذا طبيعي. فقد أخذنا أرضهم هناك لا سامية مارسها النازيون بقيادة هتلر. لكن هل هذا ذنب العرب؟
إن العرب يرون شيئاً واحداً؛ وهو أننا جئنا إلى هنا، وسرقنا بلادهم. لماذا يقبلون ذلك؟. وللقارئ الكريم أن يحكم أيهما أقرب إلى العدل.. قول بن جورين أو قول أوباما؟ وإن كان القول لا يغني من الحق شيئا.
أما قول الرئيس أوباما: (داخل حدود إسرائيل وخارج هذه الحدود) فهو يعلم - كما يعلم كثيرون - أن دولة الصهاينة هي الدولة الوحيدة في العالم، الذي يسوده الظلم، التي لم يحدد زعماؤها علناً لها حدوداً؛ بل تركوا ذلك التحديد لتظل دولتهم مثل الجذام ترعى في الجسم الفلسطيني والعربي كما يريدون؛ وفقاً لتسارع تنازلات الزعامات الفلسطينية والعربية. ولقد تعهد الرئيس الألمعي في خطابه بأمن إسرائيل. وهذا الأمر ربما كان أول من أعلنه الرئيس كيندي. وهو تعهد مقتضاه في دولة لم تحدد حدودها حماية أي أرض احتلتها وما زالت في احتلالها تهودها. وعدم ذكره لحدود الدولة الصهيونية التي تعهد بحمايتها منسجم - بطبيعة الحال - مع عدم ذكره لمكان قيام الدولة الفلسطينية التي نادى بقيامها - كما نادى به رؤساء أمريكيون قبله كان آخرهم الرئيس بوش الابن بحيث لم يقل إنها لا بد أن تقوم على الأرض الفلسطينية التي احتلها الصهاينة عام 1967م؛ بما فيها القدس الشرقية.
إن من ينظر إلى خريطة الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام المشار إليه يجد أن تهويدها قد وصل إلى درجة تجعل من غير المنطق أن يقال: إن في الإمكان قيام دولة فلسطينية فيها. لكن كما أراد الرئيس أوباما أن ننسى كل ما ارتكب بحق أمتنا من ظلم يراد أن نطرب لمجرد ذكر دولة فلسطينية بغض النظر عن طبيعتها، ذلك أننا أصبحنا مثل (الورع الذي تدلِّهه قرقعانة) كما قال الشاعر النابغة عبدالله بن سبيل - رحمه الله -.
وبطبيعة الحال لم تعد الظروف التي كان فيها الملك عبدالعزيز، والتي قال فيها بن جوريون ما قال، هي الظروف، ولا الزعامات العربية هي الزعامات، ولا النفوذ الصهيوني في أمريكا بخاصة وفي الغرب بعامة بمثل ما هو عليه الآن قوة ورسوخا. لقد كان أباة الضيم من المتطوعين يلقون التشجيع والدعم في انطلاقاتهم إلى فلسطين نجدة لإخوانهم في مواجهة الصهاينة، فأصبح هناك الآن مسؤولون فلسطينيون يأتمرون بأمر الجنرال الأمريكي دايتون، الذي كان من بين خدماته الماضية رئاسته لفريق عسكري تولى البحث عن أسلحة دمار شامل في العراق اتضح للعالم كله كذب من زعموا وجودها هناك. وفي مقدمة مهمات المؤتمرين بأمر هذا الجنرال مطاردة عناصر المقاومة الفلسطينية حماية للكيان الصهيوني؛ وذلك في ضوء ما ورد في بنود اتفاقية أوسلو.
ولما سبق ذكره لم يكن مستغرباً أن تجري الأمور في المنطقة كما تجري، ولا مستغرباً أن يجد خطاب نتنياهو الأخير - بكل ما فيه من صفاقة وصلف - ترحيباً عند جهات غربية. بل أظن أنه لن يكون مستغرباً لو تجلى أحد كتاب الواقعية السياسية في وطننا، فراح يعدد إيجابيات ذلك الخطاب.
إن إدراك ذلك الإرهابي المتطرف لرسوخ مكانة كيانه المغتصب في أمريكا بالذات؛ إضافة إلى الغرب عموماً، وإدراكه لضعف العرب؛ إرادة وإخلاصاً، أمام جبروته وغطرسته، وإتيانه إلى منصبه عبر انتخابات حرة مختلفة تماماً عن الانتخابات التسعينية النسب، أمور جعلته يقول بازدراء واستهتار: إنه مستعد أن يذهب إلى الرياض أو دمشق، أو يستقبل الزعماء العرب في القدس، التي - كما يرى الجميع - يوشك الكيان الصهيوني أن يكمل تهويدها؛ وذلك للتباحث معهم. بل إنه تمادى في ازدرائه واستهتاره إلى درجة أن دعا أثرياء العرب إلى الاستثمار في داخل ذلك الكيان المغتصب لينعموا برفاه المصايف.
ولم يخب ظن ذلك المجرم في أن يجد خطابه ما وجده من صدى، وأنى لظنه أن يخيب؟ فلقد رحب بما ورد فيه زعماء أوروبيون مهمون، كما سبق أن أشير إلى ذلك؛ بل رحبت به إدارة مخاطب العالم الإسلامي المفوَّه لمجرد ذكر دولة فلسطينية وإن يكن قد وضع مواصفاتها التي توضح بجلاء أنها ليست بدولة، وإنما حرس درك لأمن الكيان الصهيوني، مع تأكيده على أنه: لا عودة للاجئين الفلسطينيين، ولا دعوة إلى حدود 1967م، وأن القدس موحدة إلى الأبد تحت السيادة الصهيونية وأن المستعمرات في الأراضي المحتلة ذلك العام ستظل سرطاناً يزداد انتشاراً وورماً.
إلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله.