من المهم تقدير ما يحدث من انحسار لتأثير ما يُطلق عليه بالإعلام الرسمي، فقد تحوَّلت النجومية في الإعلام الحديث إلى فضاء تشع منه محطات البث المباشر وغير المباشر، وعدد لا حصر له من مواقع الإنترنت والجرائد الإلكترونية التي تغذيها قنوات إعلامية مجهولة، وتقنية اتصالات غير مكلفة، ولا تحدها الحواجز أو الموانع التي فقدت قدراتها الدفاعية بسبب تقنية الهواتف النقَّالة، لكن مع ذلك يظل المجتمع يجذبه الإعلام القادر على صناعة الخبر ثم صياغته بأسلوب تظهر عليه مسحة من المصداقية، وتكسوه لغة تحترم وعي المتلقي..
يُحسب لرأس المال السعودي أول خروج إعلامي نسبي من عباءة الإعلام العربي الرسمي، فأول قناة عربية فضائية كانت سعودية، واختارت أن تبث من الخارج، وأن تكون معظم كوادرها الفنية والإعلامية أيضاً من الخارج، ولأسباب عديدة، تتفوق نسبة العناصر العربية فيها على الوطنية، لعل من أهم هذه الأسباب الندرة في القدرات الوطنية، بالإضافة إلى افتقار العناصر الوطنية إلى بعض المهارات الفردية والإعلامية.
لكن ما حدث من طفرة نوعية في تجربة قناة الإخبارية قد يثبت العكس، وأن تلك الصورة الانطباعية القديمة ليست صحيحة، فالقدرات الوطنية أثبتت أنها قادرة على إنتاج إعلام يحترم المشاهد، ويعمل على جذب انتباه المشاهدين، وبالفعل استطاعت في فترة وجيزة أن تجذب المشاهدين لبعض برامجها المثيرة، لكنها إلى الآن ما زالت تنتج أغلب برامجها من داخل الأستوديو الإخباري، وبالتحديد في دوائر الحوار، وهي خطوة إيجابية في مجتمع ما زال يبحث عن مكان له في عصر الرأي والرأي الآخر..
ما تبذله القدرات الوطنية من جهد ملموس في برامجها الإخبارية والحوارية يستحق الإشادة، لكنه جهد يحتاج لمزيد من الإتقان والجرأة في الطرح، وإلى تصنيف اتجاهات الحوارات، وتحديد مواضيعها، وتنويع ضيوفها، وأن يتم بث البرامج الحوارية التي تتعلق بالأحداث الأكثر أهمية في وقت ساعات الذروة لمشاهدة التلفزيون، فالمشاهد في تلك الفترة المحدودة يذهب إلى القنوات التي تغطي المواضيع الأكثر إثارةً واهتماماً، يساعده في ذلك اختياره ارتفاع وعيه وقدراته على اختيار البرامج الحوارية التي تتميز بالوضوح والشفافية في الطرح، وتأتي قناة العربية كمثال للقناة السعودية التي تتميز بقدرتها على جذب المشاهد في برامجها الحوارية، والتي تتصف بالجرأة في تناولها للشئون الداخلية والخارجية، ولكي يكون النجاح همّاً متواصلاً، علينا نقل تلك التجربة الثرية إلى بقية قنواتنا المحلية، وعلى رأسها قناة الإخبارية..
تحتاج قناة الإخبارية في الوقت الحاضر إلى الدخول في مجال صناعة البرامج الإخبارية التي تبحث في أزمات المجتمع ومشكلاته خارج الأستوديو الإخباري، أي من خلال البرامج التسجيلية من الواقع، والتي تطرح القضية من داخلها وليس عبر شهادة عابرة من الآخرين، وأن تتجاوز مرحلة برامج السؤال والجواب الأسبوعية مع نفس الضيوف إلى مجال صناعة وإنتاج البرامج الوثائقية في السياسة والبيئة والصحة والطاقة وغيرها من منتجات الحضارة..
نحن أمام مفترق طرق في سباق الإعلام الرسمي مع إعلام الشارع أو الهامش، والذي يقدم الغث والسمين إلى المشاهد، وما أود الوصول إليه في هذه المقالة أن القدرات الوطنية في قناة الإخبارية السعودية أثبتت أننا لا نختلف عن الأمم الأخرى، وأن الإبداع والإتقان الإعلامي يمكن إنتاجهما محلياً، بل وتصديرهما إلى الخارج، وأن الحل النموذجي لفتح آفاق النجاح على مصاريعها أمام القدرات الإعلامية الوطنية في الإخبارية سيكون في خصخصة القناة، أو في إجازتها كمؤسسة عامة، وذلك لكي تتمكن من التحرر من نمط البيروقراطية والتقليد اللذين أصبحا نقيضين للإبداع الإعلامي، فالإدارة التقليدية في مجال الإعلام الحديث تقضي على الطموح وفرص النجاح من خلال جمودها المزمن، مما ينقل زمام المبادرة في نقل الأحداث إلى مهب الريح في شوارع الإعلام الجديد.