تعتبر سياسة عض الأصابع من آليات المفاوضات ومبدأها من يتألم أولاً سيتراجع عن موقفه، وهذا ما تبدو عليه الحال بين وزارة التجارة وشركات الأسمنت؛ فالطرف الأول متمسك بموقفه القائم على تحديد سعر كيس الأسمنت ما بين10 إلى 10.5 ريال مع وضع احتياطي يوازي عشرة بالمائة من الإنتاج واعتبار الأولوية للسوق المحلي وتغطية احتياجاته حتى يسمح لهم بالتصدير. أما الطرف الثاني فيرى في تلك القرارات إجحافاً كبيراً ومنافياً لمبدأ الأسواق الحرة، خصوصاً أن الفائض من الإنتاج أصبح كبيراً جداً وقد يتعدى 12 مليون طن بنهاية العام الحالي مع اكتمال عمل 12 شركة حالياً وتوسعات ستضيف 6 ملايين طن بخلاف توقع دخول ستة شركات أخرى حيز الإنتاج مما يعني وصول الطاقة الإنتاجية إلى 63 مليون طن بنهاية العام 2011 م بالوقت الذي تنتج الشركات الحالية ما يفوق40 مليون طن حاليا مما يزيد بأكثر من 30 بالمائة عن حاجة السوق حالياً، ولكن عند النظر إلى موقف وزارة التجارة نجد أن المنطقية فيه تكمن في نظرتها للسوق المحلي وضرورة استقرار الإمدادات فيه مع أسعار لا تضيف أي تكاليف على قيمة المشاريع مما يعني مساهمة في كبح جماح التضخم ومنع التلاعب بالأسعار مستندة على أن هذه الشركات تستفيد من المادة الخام محلياً عبر المناجم التي تمنح رخصتها من وزارة البترول مما يعني بوجهة نظرها أن خير هذه الثروة يجب أن يعود بالفائدة والأولوية إلى السوق المحلي أولاً غير أن الشركات ترى في ذلك ضربة مؤلمة لها كون العديد منها بنى دراسات توسعاته بل وإنشاء شركات جديدة على حسابات السوق المحلية والخارجية خصوصا أن وزارة البترول رفعت سعر الترخيص للمتر الواحد من 2.35 ريال إلى 6.75 مما قلص هامش الربح مع إمكانية تحقيق خسائر للبعض في حال حدد السعر قرابة العشرة ريالات كشرط لفتح التصدير، هذا من وجهة نظر المنتجين، وبالرغم من استناد كلا الطرفين إلى أسباب منطقية للتمسك بموقفه إلا أن الحاجة للوصول إلى حل لا يجب أن تكون مبنية على أساس موقف ثابت لا رجعة فيه فواقع الإنتاج تغير من خلال الزيادة الكبيرة فيه ومازال أعلى من استهلاك السوق الذي يقف عند مستويات30 مليون طن تقريبا حالياً بينما على الطرف الآخر تقلص الطلب من الدول المجاورة نتيجة لتباطؤ الطلب بعد تنفيذ الكثير من المشاريع وكذلك إثر الأزمة العالمية على قطاع الإنشاءات وأيضا لدخول منافسين لتلك الأسواق بعد إيقاف الشركات السعودية عن التصدير لتلك الدول وبالتالي لن تكون حصتهم بتلك الأسواق كما كانت حتى لو عاد الطلب إلى سابق عهده بخلاف انخفاضه حاليا والذي سيدوم لفترة طويلة كما أن السوق السعودي سيبقى الأكبر خليجيا وعربيا خصوصا مع إقرار الأنظمة التي ستفتح المجال أمام التوسع ببناء الوحدات السكنية وكذلك المدن الاقتصادية التي تبنى حالياً ومشاريع البنى التحية التي أقرتها الحكومة في ميزانيتها مما يعني استهلاك جزء كبير من الإنتاج محلياً على مدى عقد من الآن، ويبقى السوق العراقي هو الأهم بين الأسواق في حال تحسنت الظروف هناك نظراً لحجم المشاريع التي يتوقع تنفيذها هناك والتي تقدر بأكثر من100 مليار دولار أمريكي إلا أنه مرهون بظروف من الصعب تحقيقها بفترة قصيرة إلا أن أبرز التناقصات التي تطفو على السطح من الطرفين هي عدم تطبيق وزارة التجارة لمبدأ حرية الأسواق والمنافسة المفتوحة وتحرير أسعار الأسمنت لتركها لقوى السوق العرض والطلب وإلغاء مبدأ تثبيت الأسعار، بل ومنع أي اتفاق حولها بين المصنعين ومحاربة ذلك بفتح باب الاستيراد على مصراعيه عند الضرورة، وكذلك الاستمرار بمنح التراخيص كإحدى الآليات التي تجبر المصنعين على الإبقاء على الأسعار عند حدود مقبولة دائماً أما من ناحية المصنعين فتبدو الحالة غريبة فهم بالوقت الذي يشكون فيه من ضغوط وزارة التجارة التي أوقفت التصدير منذ فترة طويلة إلا أنهم مازالوا يحققون أرباحا جيدة، كما أنهم ينوون الاستمرار بالتوسعات وقبل فترة أعلنت أسمنت الشرقية عن نيتها زيادة إنتاجها وحصلت على تمويل من صندوق التنمية الصناعي لهذا الغرض مع نية البعض القيام بزيادة الإنتاج أيضا، وهذا بالتأكيد مبني على دراسات حول مستقبل السوق كما يجب على المصنعين التركيز على السوق المحلية من مبدأ الحفاظ على مصالحهم المتعددة فيه، وأن واقع صناعة الأسمنت مازال يدور ضمن مبدأ التنافس الاحتكاري إلى الآن وسياسة إلغاء قوى السوق من خلال تثبيت الأسعار والتحكم بها مما يعني بقاء هذه الصناعة المهمة ضمن إطار مقنن لا يعتمد على مبدأ تجاري بحت، وكأنه قطاع حكومي بالرغم أن ثلثي الشركات موجودة بالسوق المالية وبالتالي يجب أن تكون خاضعة في عملها لمبدأ استثماري يكفل تحقيق النمو بالأرباح أو خروج الغير قادرين على المنافسة من خلال سياسات الاندماج والاستحواذ واتباع وزارة التجارة لآليات أخرى أكثر ضغطاً على المصنعين ولكن من خلال فتح السوق وليس التركيز على المنتجين الحاليين فقط وإلا فالخسائر والعواقب ستكون وخيمة على المستثمرين بهذا القطاع وهذا بالتأكيد ينافي مبدأ جذب الأموال للاستثمار لأنه يرفع من هامش المخاطرة ويقلل من الإقبال عليه بقطاع الأسمنت أو بغيره ممن يشابهه نفس الظروف.
mfaangari@yahoo.com