أتابع في دهشة أخبار هذه الأنهار البشرية التي تجتاح كل يوم الشوارع الإيرانية، ضاربة بتحذيرات الحكومة عرض الشارع، محتجة على نتائج الانتخابات ومطالبة بإعادة الاقتراع. كيف تجرّأت هذه الجموع على تحدي السلطات والنزول للشارع، رغم الحظر الشامل الذي فرضته السلطات على كل أنواع المظاهرات منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 .
من يشاهد فيلم (برسابلس persapolis) الذي كتبته وشاركت في إخراجه الإيرانية (مرجان ستاربي) عام 2007 والذي تم إنتاجه على شكل رسوم متحركة يحكي واقع الحياة اليومية للمواطن الإيراني بعد ثورة الخميني، والرقابة المخيفة التي فرضتها السلطات الدينية على الحياة اليومية للأفراد وللناشطين، والمجازر والاتهامات التي كانت تكال دون اعتبار لأي قيمة إنسانية من خلال حكاية الفتاة الإيرانية (مرجان)، سيذهل من قدرة هذا الشعب على التوالد من جديد وعجز كل الأنظمة عن تدجينه وتطويعه، وهاهو اليوم يقف مطالباً بحقوقه السياسية ورافضاً فرض أنموذج وحيد على الشارع الإيراني.
ورغم أنّ هناك الكثير من الأطروحات التي تؤكد في جانب منها على نظرية المؤامرة ودور القوى الخارجية في تحريك الشارع الإيراني، وهو الأمر الذي سنترك للزمن أن يبرهنه، إلاّ أنّ الملاحظ أنّ هذه التحولات التي تهز الشارع الإيراني، يمكن تلمُّسها وتحسّس بعض خطواتها الطفولية والجريئة أحياناً كما هو الحال في إيران، في الكثير من بلدان الشرق وخاصة الأقل نمواً منها.
هناك عمليات تحوّل عميقة تجري داخل شرايين هذا الشرق .. بين رجاله ونسائه .. بين الطبقات الاجتماعية وبين المؤسسات المدنية والسياسية والتي من أهم ملامحها: الرغبة في التغيير والانفتاح على العالم، والتقليل من تأثير الأيدلوجيات التقليدية دينية كانت أو سياسية، وتعدُّد المرجعيات القيمية وتناثرها بتعدُّد وتناثر المصادر الثقافية والقيمية التي يتعرّض الأفراد لتأثيرها في كل أنحاء العالم.
وتتعدّد التفسيرات المقدمة لهذه التحولات حسب اهتمامات المفسّر ومرجعيته العلمية والأيدلوجية، لكنني هنا أحب أن أتناول بعض الأطروحات العلمية التي حاولت التنظير لمثل هذه التحوّلات، ومن بينها كانت الأوراق التي قدمت في المؤتمر العالمي الثاني لدراسات العولمة والذي عُقد في دبي في نهاية شهر مايو الماضي في جامعة الشيخ زايد، بتنظيم ودعم من كبرى الجامعات الأمريكية والأسترالية ومراكز بحوث مشهورة، وأتيح لي حضوره برعاية كريمة من جامعة الملك سعود، وقدم فيه الكثير من الباحثين المشهورين طروحاتهم حول التأثيرات المحتملة لظاهرة العولمة على مناحي الحياة المختلفة تربوية واقتصادية وسياسية.
من أبرز هذه الأطروحات والتي ربما تقدم بعض التفسير لما نراه يحدث في إيران أو لبنان أو مصر أو السعودية من تنامي حركات التحرر والبحث عن مفاهيم وصياغات جديدة للعدالة الاجتماعية، حيث يرى بعض الباحثين أنّ حركة العولمة العالمية أحدثت هزّات عميقة في الكيانات الراكدة في الكثير من المجتمعات وخاصة النامية منها، وتعاونت أربعة عوامل أساسية مرتبطة بظاهرة العولمة كما يرون على توسيع هذا التأثير وهي:
1- حركة التواصل العالمية عبر شبكات الاتصال والتكنولوجيا التي زعزعت قدرة المجتمعات والحكومات التقليدية على السيطرة على مصادر المعلومات، ومكّنت المقاومين على اختلاف درجات مقاومتهم ونوعها من إيصال أصواتهم إلى العالم ليعرف ماذا يحدث، حتى لو أطبقت قوى النظام وأجهزة مراقبته وحاولت تغطية الأحداث، ولعل ما يحدث في إيران اليوم أبرز شاهد لذلك، فمواقع مثل (توتير Twitter) و(يو تيوب you tube) أصبحا أحد أكثر المصادر التي يعتمد عليها العالم بما فيها وكالات الأنباء العالمية، للحصول على المعلومات والصور كما تحدث في نفس اللحظة، بعد أن قيّدت الحكومة الصحافة العالمية في ما هو مسموح لها بنقله، وبعد أن عطلت الدولة الإيرانية حتى نظام الرسائل في الجوال حتى تعيق التواصل بين الفئات المقاومة.
2- زيادة مظاهر عدم العدالة الاقتصادية وتشرذم الطبقات المتوسطة في الكثير من المجتمعات النامية بفعل التأثيرات السلبية للأزمة المالية العالمية، وتأثير ذلك على وعي هذه الطبقات، والتحوّل الذي أحدثته في مفاهيمها القيمية، كمفهوم العدالة الاجتماعية والمساواة وحقوق الإنسان، فضلاً عن الأزمات الاقتصادية المتلاحقة في الكثير من الدول.
3- ظهور مراكز قوة جديدة حول العالم، غير تلك المراكز التقليدية في الولايات المتحدة أو أوروبا، وتغير نظام القوى العالمية التقليدية نتيجة لذلك .. مصادر العالم الثقافية والعلمية والاقتصادية لم تعد فقط قصراً على الولايات المتحدة التي يعاني نظامها عامة، وخاصة مؤسساتها المالية والاقتصادية، من تأثيرات هائلة للأزمة المالية العالمية يتوقع أن تستمر خلال السنوات العشر القادمة حسب رأي الكثير من المحللين، وقد أتاح هذا فرصة ذهبية للكثير من مراكز القوى الجديدة في آسيا على وجه التحديد لكي تظهر .. الصين تبدو مؤثرة في كل اقتصاديات العالم .. نحن نأكل ونشرب من إنتاج الصين في الغالب ... الشباب اليوم لا يحمل من النت فقط الأغاني الأجنبية باللغة الإنجليزية بل تسمع اليابانية تتردد في البيوت والسيارات، ومثلها الكثير من الأنغام القادمة من إفريقيا وماليزيا وإندونيسيا والفلبين. لم تعد الولايات المتحدة وأوروبا، رغم تفوقهما حتى الآن على كل الثقافات المنافسة هي المصدر، فالعالم يمتلئ بمختلف المصادر الثقافية والاقتصادية وحركة التواصل، تجعل هذا الانتقال ممكناً وخاصة بين فئات الشباب.
4- زيادة المخاطر العالمية سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو البيئي بشكل غير مسبوق، وتشابك تأثيراتها ليشمل كافة نواحي العالم، فحين نلقي بعلبة ماء فارغة في البر في أي دولة بالعالم، فإنّ التأثيرات البيئية لهذه العلبة على البيئة ومدى بقائها وتحللها، وتأثير هذا التحلل على البيئة الطبيعية، كل هذه التحوّلات لم تَعُد تبقى في حدود البيئة الجغرافية المحلية، بل تتعداه لتؤثر على مدى قدرة الأرض عموماً على تحمل قسوة الإنسان في التعامل معها لتعيده للناس على شكل هذه التقلبات المناخية الهائلة وهذه الكوارث الطبيعية .. إلخ وفي ذات السياق تأتي التحوّلات الحادة اقتصادية وسياسية، لتدفع بحركة الشباب العالمية إلى المزيد من البحث عن مخارج يرون أنها أكثر عدالة.
هذه التأثيرات للعولمة وكما يرى بعض المنظرين، هي بعض مما يحرك حركات الشباب داخل الكثير من البلدان وخاصة الأكثر تصلباً في أنظمتها السياسية والقيمية كإيران، ويبقى السؤال مفتوحاً لوجه التاريخ : هل ما ينظره علماء اليوم يحكي شيئاً من حقيقة ما يحدث اليوم في بلدان العالم، أم أنّ التاريخ وكما يثبت لنا دائماً، يمشي موازياً للأقوياء بغضّ النظر عن قناعاتهم وممارساتهم الديمقراطية سواء كانوا في الحكومة أو المقاومة؟؟