2) كتاب المفصَّل للزمخشري
|
يُعدّ الزمخشري المتوفى 538هـ عَلماً من أعلام الثقافة العربية والإسلامية، له آثار جليلة في التفسير والحديث واللغة والأدب والنحو والبلاغة وغيرها، ولكتابه (المفصّل) شأن كبير في علم النحو، وهو واحد من أهم المصادر التي يعتمد عليها الباحثون في هذا العلم، لذلك نال عناية كبرى في الدرس والشرح، فقد شرحه ابن الحاجب شرحاً سماه (الإيضاح) وشرحه العكبري وابن مالك وابن يعيش وغيرهم، وشرحُ ابن يعيش هو أكثر شروحه ذيوعاً وتداولاً، قال الزمخشري في مقدمة كتابه (لقد ندبني ما بالمسلمين من الأرب، إلى معرفة كلام العرب، وما بي من الشفقة والحدب، على أشياعي من حفدة الأدب، لإنشاء كتاب في الإعراب، محيط بكافة الأبواب، مرتب ترتيباً يبلغ بهم الأمد البعيد بأقرب السعي، ويملأ سجالهم بأهون السَّقي، فأنشأت هذا الكتاب المترجم بكتاب المفصل في صنعة الإعراب، مقسوماً أربعة أقسام: القسم الأول في الأسماء، القسم الثاني في الأفعال، القسم الثالث في الحروف، القسم الرابع في المشترك من أحوالها، وصنّفتُ كلاً من هذه الأقسام تصنيفاً وفصَّلت كلَّ صنف منها تفصيلاً حتى رجع كل شيء إلى نصابه واستقر في مركزه).
|
ويتضمن القسم الرابع وهو القسم المشترك: الإمالة، الوقف، القَسَم، تخفيف الهمزة، التقاء الساكنين، حكم أوائل الكلمة، همزة الوصل، زيادة الحروف، أحرف الزيادة، إبدال الحروف، الاعتلال، الإدغام.
|
لقد حقق الزمخشري ما قاله في مقدمته، فالكتاب مرتب ترتيباً تأليفياً يجمع بين المتجانس من الموضوعات مما لم يتوافر على الوجه الأكمل في كتاب سيبويه، وهو يمثل مرحلة من مراحل التدرج في إخراج علم النحو، وقد أتم صاحبه بما في كتاب سيبويه ولكن في نظام علمي أوضح وبأسلوب أقرب إلى ما نعرفه الآن من تقسيم وتعبير واصطلاحات في هذا العلم.
|
وتضمَّن المفصَّل أغلب المصطلحات النحوية المستعملة الآن والدائرة في الكتب التي بين أيدينا، وهو أيضاً سهل واضح في أسلوبه العلمي، وليس في الكتب التي بينه وبين كتاب سيبويه مما وصل إلينا كتاب مثله عالج المباحث النحوية علاجاً كاملاً شاملاً وإنما أكثرها مؤلفات في موضوعات صرفية هي أقرب إلى الصبغة اللغوية أو هي بحوث نحوية تجيء في ثنايا الموضوعات الأدبية، وفي خلال شرح القصائد أو المقطوعات أو غيرها، ويعد كتاب (المفصل) من أجل ذلك مرحلة جديدة وحلقة مستقلة متميزة في سلسلة المصنفات النحوية.
|
3) شرح الرّضي الإستراباذي على كافية ابن الحاجب في النحو وعلى شافيته في الصرف:
|
جاء ابن الحاجب بعد الزمخشري بأكثر من مائة وثلاثين عاماً، وله كتاب (الكافية) في النحو، و(الشافية) في الصرف، وهما ذائعان بين كتب هذين العلمين، وقد عني بشرحهما كثير من العلماء، والبحوث التي تضمّنتها الكافية تسير في اصطلاحاتها وفي نهجها العام وفي ترتيبها بطريقة تشبه ما أتبعه الزمخشري في كتابه (المفصل)، أما (الشافية) فإن ما فيها من المباحث يسير في مادته وطريقته على منهج يقرب مما نجده الآن في كتب الصرف المعروفة، وتضم (الشافية) إلى جانب مباحثها الصرفية بحوثاً في مخارج الحروف وصفاتها وفي الرسم الإملائي، وهي كالكافية كلاهما على شكل متن موجز على الطريقة التي اتُّبعتْ فيما بعد في تأليف المتون، ومن أهم شروح الشافية شرح الرضي المتوفى 688هـ وشرح الجارَبَرْدي المتوفى 746هـ، ومن أهم شروح الكافية شرح الرضي أيضاً وقد جمع هذا الشرح قواعد النحو وأسرار هذه القواعد بابتكار يدل على تعمق الشارح في هذا العلم على إحاطة واسعة به، ولم يكن الرضي في شرحه هذا جمّاعاً فحسب وإنما كان أيضاً الفيصل تستحكم الفكرة عنده فَيُبْرزُها مدعومة بالدليل النقلي والنظري غير متحيّز لمذهب خاص، فهو قد يرتضي مذهب الكوفيين أحياناً وهو يرتضي مذهب البصريين على الغالب لأنه كان في الجملة بصري الاتجاه، وقد يبدو له ابتكار جديد يخرج به على كل النحاة وعماده فيه استقلال الرأي ورجاحة الحجة، وفي شرحه للكافية أمثلة كثيرة جداً من هذا الطراز، وكان في الوقت نفسه يتحاشى الخروج على الإجماع في كثير من الأحيان مع لمحه أسباب الخروج عنه، فقد نقدح عنده مثلاً استحسان البناء للمضارع المجزوم لولا إجماعهم فقال (ولولا كراهة الخروج من إجماع النحاة لحَسُنَ إدعاء كون المضارع المسمّى مجزوماً مبنيّاً على السكون).
|
وقد تضمن شرحه هذا شواهد نثرية مستفيضة من القرآن الكريم وكلام العرب المحتجّ بهم والحديث النبوي وكلام علي بن أبي طالب وشواهد شعرية، وقلَّما تقرأ باباً فيه إلا رأيت الحديث موجوداً، أما كلام الإمام علي فإن الشرح ممتلئ به مع نسبته في بعض الأحيان إلى كتاب (نهج البلاغة)، وقد اعتمد في ثقته بكلام علي على ما اشتهر به من الفصاحة وهو في هذا غير مسبوق، وأما الشعر فقد دعم شرحه للكافية به فذكر فيه سبعة وخمسين وتسعمائة شاهد شعري للجاهليين والمخضرمين والإسلاميين ممن يحتج بكلامهم، واحتج فيه أيضاً بشواهد شعرية كثيرة لم يعرف قائلها وأكثرها مأخوذ من كتاب سيبويه في أبياته الخمسين المجهولة القائل أو مأخوذ ممن جاء بعد سيبويه من الشعراء المحدثين الذين منع العلماء الثقات الاحتجاج بهم، ومن ذلك استشهاده في (باب الفاعل) بقول أشجع السلمي الشاعر العباسي معاصر الرشيد:
|
كأن لم يمت حيّ سواك ولم تقم |
على أحد إلا عليك النوائح |
وفي (باب المبتدأ والخبر) بقول أبي نواس:
|
غيرُ مأسوف على زمن |
ينقضي بالهمّ والحزن |
ولا ريب أن احتجاجه بالمحدثين يعد إحدى الهنات الملاحظة عليه، ولكن يبقى شرح الرضي على الكافية برهان حق على عبقرية صاحبه على الرغم من هذا الاحتجاج ومن إكثاره تعقب ابن الحاجب بشيء من التشهير ومن تناقضه أحياناً في بعض المسائل.
|
وقد ألف الرضي شرحه هذا للكافية كما ذكر في ختامه 686هـ، وللسيد الشريف الجرجاني تعليقات عليه جمعت بين الوجازة والإفادة، ومن العجيب أن يطول الأمد على وصول شرح الرضي من المشرق إلى مصر، فهو لم يدخلها إلا بعد ابن هشام الأنصاري المتوفى 761هـ، قال البقاعي المتوفى 885هـ في كتابه (مناسبات القرآن): (ولم يُنْقَل الشرح من العجم إلى الديار المصرية إلا بعد ابن هشام) ولم تتداوله الأيدي العامة بعد نقله إلى مصر، حتى العلماء لم يطلع عليه منهم إلا القليل، فالأشموني مثلاً المتوفى 929هـ لم يذكر الرضي أبداً في شرحه لألفية ابن مالك مع أنه أَوْلَعُ المؤلفين بجمع المعلومات وذكرها في شرحه، ومما لا شك فيه أن مصر حُرمت من شرح الرضي طويلاً إذ كان أكثر ما اعتمدت الدراسات النحوية في مصر عليه هي مؤلفات ابن الناظم وابن هشام وابن عقيل والأشموني وهي جميعاً خالية من أية جزئية علمية لها اتصال بالرضي.
|
ومهما يكن من أمر فإن شرح الرضي على الكافية يعد متميزاً وممتازاً، قال الجلال السيوطي المتوفى 911هـ عنه (لم يؤلف عليها - يعني الكافية - بل ولا في غالب كتب النحو مثله جمعاً وتحقيقاً وحسن تعليل، وقد أكب الناس عليه وتداولوه واعتمده شيوخ هذا العصر ومن قبلهم في مصنفاتهم ودروسهم وله فيه أبحاث كثيرة مع النحاة واختيارات جمة ومذاهب ينفرد بها).
|
أستاذ سابق في الجامعة |
|