لقد بدأت بوادر الطلاق؛ لم يعد الفتى قادرا على الجمع بين هذه التساؤلات المقلقة الممضة عن معنى أن يكون له مجتمع صغير من هذه الشبيبة التي يجد نفسه بينها كل حين؛ مجتمع صغير فعلا يكاد أن يكون معزولا عما حوله..
|
.. فمن منزل والديه الطيني المتواضع الذي هو نهاية ممر صغير لا يصح تسميته شارعا إلى خلوته المعتادة مع صحبه!
|
نسي (الفتى) الناس، وما يدور في الحياة من أحاديث وما يتسلى به أقرانه من لهو ولعب ومزاح، كان جادا إلى حد إرهاق جسده الصغير، منكبا على قراءة كل ما يصل إليه، ومن شغفه هذا قَبِل اقتراحا قدمه له أحد النافذين في الجماعة بأن يكون مسؤولا عن مكتبة تجارية متعثرة؛ ويريدون لها أن تنهض من فشلها، وقد قبل هذه المسؤولية كي يلبي مزيدا من الرغبة في القراءة والاطلاع.
|
ها هو الآن يقرأ لطه حسين (على هامش السيرة) قراءة متعمقة هادئة؛ فيرى أن طه يتمحك في البحث عن أساطير للعرب في الجاهلية تقف موازية لملاحم وأساطير اليونان، ويمتد به النفس في تضخيم قصص الإخباريين والرواة عن الخصومات بين القبائل، ووصف الشعر لذلك، وربما قاده شكه في بعض هذه القصص إلى نفي جزء منها، ثم التوسع في الوقوف عندما يعتقده صوابا منها! هل أدرك (الفتى) أنه يدرب هو أيضا عقله دون أن يدري على النقد والمقدرة على تكوين ذائقة جيدة قادرة على التسليم بما يصل إليه من أفكار في اقتناع تام واطمئنان إلى ما يذهب إلى قبوله، وقادرة على رفض ما يرى فيه خطلا أو شكا أو ضعفا أو اضطرابا؟
|
وها هو يقرأ له (حديث الأربعاء) بأجزائه الثلاثة فيزداد إعجابا بطلاوة أسلوبه، وقوة شخصيته، واستقلال رؤاه، وقد قرب إليه عصور الشعر والأدب في الجاهلية والإسلام، وعرف كيف كان يفكر الهجاؤون وكيف كان يعيش الغزلون، وكيف كان يتبارى الرواة والوضاعون والمنتحلون مثل حماد الرواية وحماد عجرد، وخلف الأحمر ووالبة بين الحباب على الحظوة عند الولاة والسلاطين بما تبتكره عبقرياتهم وما تسعفهم به ذاكرتهم من شعر وقصص وأحداث؛ فينالون بذكرها وروايتها أكثر مما ينال قائلوها ومبدعوها. ثم تتوالى قراءاته في تلك المرحلة الصاخبة الهادئة في آن معا؛ الصاخبة الضاجة في داخله الموار بالبحث عن إجابات لكثير من الأسئلة، والهادئة هدوء قريته الصغيرة الوادعة والحالمة أكثر ما تحلم بإنارتها بالكهرباء أو بوجود مستشفى يطبب مرضاها؛ وتمتد يده في هذه الأجواء النفسية التي كان يعيشها بين الانتماء وضده إلى (دعاء الكروان) ثم (شجرة البؤس) ثم (الأيام) بأجزائها الثلاثة فيجد لدى طه خيالا خصبا، وبراعة في التصوير، ووقوفا على أدق خصائص النفس البشرية؛ ولا يحد من ذلك الانثيال الفني المثير والجميل سوى التزام طه بأسلوبه المقالي، وطغيانه عليه في القصة والرواية والسيرة الذاتية!
|
لم يجد (الفتى) الصغير الذي يخبئ كثيرا من هذه القراءات عن مرشديه من الجماعة؛ لأنه يعلم مقدار تحرجهم من إقباله على هذا اللون من الكتب؛ لم يجد بدا من الصد قليلا عن كثير منهم، والخلوة مع نفسه في معظم الأوقات للتفكير بأناة في هذا الذي ينتظره من دور عملي للوصول إلى المجتمع الإسلامي الجديد على أنفاق المجتمع الجاهلي القديم!
|
يا لهذه الحيرة؟ ها هو غامض أشد الغموض، وناء وبعيد عن الناس من حوله وهم ينصتون إليه قارئا وواعظا، متسربل بالغموض والاضطراب عالمه النفسي الداخلي الذي تدور في تلافيفه وأعماقه معارك كبرى للبحث عن الطريق!
|
أهو ملائكي هذا (الفتى) فلا يعلم من هذه الدنيا ولا يعرف في هذه الحياة سوى ما يحسن إلقاءه على الناس بعد صلاة العصر من الأحاديث النبوية الشريفة ومن المواعظ؟! أهو شيطان مريد وإنسان مخبوء في داخله كل نزغات الشيطان وظنونه وفسقه ومجونه؟!
|
ما هذا أيها (الفتى) الصغير، أيها الفاضل؟ أيها الشاب الصالح كما تلقب؟ كيف تخبئ في إهابك وبين ثنايا نفسك الطرية القلقة الطيبة كل هذا السوء؟!
|
هأنت لا تتعفف عن النظر إلى من تراهن من النساء يعبرن طريقهن غدوة أو روحة فتسترق إليهن النظر الخاطئ المتسلل الذي تسعى إلى مداراته ودفنه في الأرض المتربة الجافة؟! أأنت كما أنت أمام الناس؟! أم أنت كما أنت أمام حقيقة نفسك؟ لقد ضعفت - أيها الفتى - كثيرا وكثيرا؛ وسقطت فيما بعد في هذه السنة الفاصلة من عمرك، ومن تجربتك الفكرية سقوطا ذريعا وذريعا؛ فكيف لك وجها جديدا تظهر به أمام الناس، وقد وقعت في فخ الانكشاف أكثر من مرة؟!
|
ثم من سيعصمك في مستقبل أيامك من أن تقع في شراك تجربة تتوق إليها نفسك، وتتطلع إليها دون إرادة من عقلك الظاهري؟
|
ثمة صراع عنيف بين ما تريده نفسك - أيها الفتى - وبين ما يريده عقلك الظاهري الذي يرسم صورتك العاقلة المتزنة الهادئة الصالحة التقية النقية الورعة عند الناس؟! فمن أنت؟ هل أنت نفسك الخطاءة التواقة إلى الحياة بما فيها من جمال ومتعة وحبور؟ أم أنت أيها الفتى القلق هذا الذي تسعى إلى أن تكونه بين الناس؟ ما الذي أودى بك إلى أن تبدو في شخصية المصلح المنبه حارس الفضيلة؟! وهل أنت لها كفؤ وداخلك يتفجر أسئلة؟ وجسدك يتفجر براكين ثائرة؟!
|
لماذا لا تحسم الموقف بعد أن سمعت ما وصل إليك من أحدهم؛ وهو أن دورا ما ينتظرك؟! يا للسخرية المريرة، دور؟! أأكون واحدا ممن يصنعون حدثا تاريخيا؟ شيء كبير جدا - حدث الفتى نفسه - حدثي التاريخي الكبير أن أصنع حدثا آخر في داخلي يطفئ هذه الحيرة، ويقضي على هذا الاضطراب؟
|
بين يدي (الفتى) رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، وبين يديه (مذكرات الدعوة والداعية) وخلص لتوه من قراءة كتاب كامل الشريف (الإخوان المسلمون وحرب فلسطين) ولكن بين يديه أيضا كتب أخرى لا تتفق مع ما سبقها في المنهج والفكر؛ لديه روايات إحسان عبدالقدوس (لا أنام) و(الوسادة الخالية) و(في بيتنا رجل) و(أنفس وثلاثة عيون) ووشيكا أنهى رواية نجيب محفوظ (خان الخليلي) ثم رواية (ثرثرة فوق النيل) ثم رواية (ميرامار).
|
الآن وصل (الفتى) إلى الحكم على نفسه بأنه لا يصلح أبدا للدور الذي ينتظره؛ فقد علم أن الحياة أكثر رحابة من أن تكون وفق هذا الذي يستمع إليه حين يكون مع زملائه في إحدى الخلوات، واسعة هي الحياة هكذا علم من قراءاته، وكبيرة جدا ومرهقة هذه الأفكار المثالية التي تنداح إليه بين حين وحين؛ وواسع وكبير هذا الشق الذي يفصل بين الرؤى المثالية وحياة الناس المصطخبة الموارة بما هو ناء عن بعض ما يقرؤه أو يسمعه، وبعيد جدا أيضا العالم كله عن نمط في الحياة يراد له أن يكون عليه؟!
|
قال لنفسه الصغيرة التي ظلمها بكثير من التفكير المرهق المضني: كوني كما أنت؟! حينا رفرافة جميلة محلقة مثالية وحدك في عالمك؛ وحينا كوني كما أنت أيضا جسدا ملتهبا ممزوجا ومخلوطا من عجينة بشرية موارة؛ لا يمكن صدها ولا الإعراض عنها!
|
هل يستطيع (الفتى) وقد قارب الثامنة عشر من عمره حبس جسده وأشواق نفسه وتطلعاتها في تلك الصورة النقية البهية المثيرة للإعجاب التي يعرفه الناس بها؟! وإذا استطاع ذلك فمن يضمن له أن يستطيع كل العمر؟! هو أدرى من غيره بخبيئة نفسه؛ حتى لقد قال لها يوما في لحظة صدق غامرة: إنك أقرب الناس إلي، ولكن أشد الناس عداوة لي؛ فلماذا أنت وضيعة إلى هذا القدر من السوء؟! كوني رفيعة شريفة عفيفة كما تتمظهرين به أمام الناس؟! أنت نفس إنسان يراد أن يكون له دور إصلاحي؛ فكيف بالله عليك - يا نفسي - تريدين احتمال هذه المسؤولية العظيمة والظهور بها أمام الملأ وأنت على هذا القدر من الوضاعة والضعف والشهوانية!
|
ألا يمكن أن تعلني التوبة عن هذه الظنون المارقة التي تعصف بك؟ عن هذه الأشواق الخيالية المسرفة في البحث عن المتعة والجمال؟ عن المرأة التي تحلمين بها؟ عن كثير مما لو كشفته الأيام للناس لما بقي لك محب واحد، ولا مؤنس وحد، ولافتقدت هذه المنزلة الرفيعة التي تحتلينها في عيون وقلوب من حولك!
|
يستمع صدفة إلى السيدة أم كلثوم وهي تغني (ولد الهدى) فيجد حرجا كبيرا في نفسه؟! هل يستمع أم يقفل مذياع سيارته الصغيرة؛ رفيقته في كثير من عزلته البعيدة اليومية في الطريق الطويلة التي تشق البلدة من أعلاها، أو في عزلته البرية مع قراءاته الخاصة؛ ما هذا؟ كلم جميل؛ لكن حذار أن يراك أحد. شيء مثير يصل إلى أعماق النفس، معان رائعة صاغها أحمد شوقي باقتدار فني، وعبقرية عظيمة في وصف أخلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
|
ولد الهدى فالكائنات ضياء |
وفم الزمان تبسم وثناء |
الروح والملأ الملائك حوله |
للدين والدنيا به بشراء |
والعرش يزهو والحظيرة تزدهي |
والمنتهى، والسدرة العصماء |
إلى أن يصل شوقي في وصفه بعض شمائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فيقول:
|
زانتك في الخلق العظيم شمائل |
يُغرى بهن ويولع الكرماء |
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى |
وفعلت ما لا تفعل الأنواء |
وإذا عفوت فقادرا، ومقدرا |
لا يستهين بعفوك الجهلاء |
وإذا رحمت فأنت أم أو أب |
هذان في الدنيا هما الرحماء |
وإذا خطبت فللمنابر هزة |
تعرو الندي، وللقلوب بكاء |
راح في نشوة فنية، وتماذج في نفسه هذا التكوين العجيب البهي الأخاذ من الكلمة والصوت واللحن. لقد قال لنفسه وهو في هذه السن المبكرة وكان في ذلك الطريق الطويل المتجه جنوبا، وهو يناجي نفسه في خلوته التي يحاذر أن يتصنت فيها عليه أحد: إن الحياة أوسع كثيرا وكثيرا من دائرته الضيقة التي يدور فيها؛ فهذا اكتشاف جديد، هو لا يستمع إلى (الراديو) إلا في سيارته الصغيرة هذه؛ لأن هذا الجهاز قد صادره والده مرتين حين وجده؛ وفي المرة الأخيرة أعلن تحديه أباه فأظهره من مخبئه ووضعه في مكان بارز في المنزل وبصوت مرتفع، وكان الوقت عصرا، والبرنامج المذاع حسبما يتذكر (ما يطلبه المستمعون) ولم يدر أن هذه المغامرة الجريئة هي آخر المحاولات في إثبات الوجود؛ كان ذلك قبل سنوات من سيرته مع الجماعة؛ فلم يعد قادرا على السماع إلا في السيارة؛ وهو لا يجد مقدرة على الانفداع إلى سماع ما لا يعتقد أنه غير مناسب مع شخصيته تلك التي ارتسمت لمن حوله؛ بيد أنه وجد نفسه يردد أبيات شوقي، ثم يشعر بشيء من الأسى والألم وربما تعذيب الضمير!
|
وقد غمره هذا الشعور مرة ومرة؛ حتى استمع إلى السيدة وهي تغني (إلى عرفات الله) فذهب مرددا حينا أبياتا من القصيدة لشوقي، ثم نادما بعض الندم على ما خامره من شعور بالذنب! لا، بل إنه من إعجابه المفرط بهذه القصيدة ذهب واشترى شريط (كاسيت) وحين استمع واستمع ثم في لحظات الاندماج الفني تلك، وفي غمرة شعور مضطرب متداخل بين الاغتباط والإعجاب والتحليق في فضاءات عليا أوقف سيارته جانبا وسحب شريط الكاسيت هذا ثم أخذ حجارة كبيرة في حجم يده وكسر بها هذا الشريط حتى تناثر بددا!!
|
ما زال (الفتى) يراوح بين منزلتين؛ وكلما حلق بعيدا في عالمه النفسي الخاص رده بعنف شديد واقعه الذي يعلمه الناس عليه؛ وكم سعى إلى الخلاص من هذا الشعور الأليم باضطراب الداخل، بيد أنه لم يفلح؛ لم يفلح في هذه المرحلة الصعبة الحرجة التي يحفر فيها في اتجاهات عديدة؛ فلربما اكتشف ذاته، واكتشف ما يريده هو لا ما تريده له الجماعة!
|
لقد جرب الشعر وكتب أول قصيدة في حياته تحية للملك خالد بن عبدالعزيز رحمه الله حين عاد من رحلته العلاجية، وعلى وزن وقافية قصيدة شوقي (ولد الهدى) فقد كانت ملكت عليه جوانحه وشعوره وخياله. ثم في هذه السنة جرب الكثير من أدوات الكتابة؛ فبعث بأول مقالة في حياته إلى مجلة (الدعوة) وكان عنوانها: الأجنبي وتقاليد البلاد. وهي تمتح من عالمه المحافظ الذي يعيشه ويسيطر عليه، ونشرت بعنوان بارز، ورأى اسمه ولأول مرة في عالم الصحافة ببنط جيد! ثم كتب القصة، ثم كتب البحث الصغير عن هجرة الكفاءات العربية إلى الغرب، ثم ألقى أول محاضرة في حياته عن الفردوس المفقود (الأندلس) في نادي الشعلة بالخرج، وأتبعها بمحاضرة أخرى فيما بعد في النادي نفسه عن (أصحاب الأخدود)!!
|
جرب الكثير؛ يمر (الفتى) بحالة من الاختيارات الصعبة؛ كيف يمكن أن يكون، وماذا يريد؟ لقد دهمه شعور بالتفرد والتميز وهو يلقي قصيدته الأولى في حفل الأهالي الذي هيأته إمارة القرية احتفاء بعودة الملك (خالد)، ودار في نفسه سؤال صعب؛ هل يمكن أن يكون له دور في المستقبل؛ فهؤلاء المميزون من أعضاء الجماعة يهنئونه ويباركون له تفوقه في الإلقاء، وفي الوقوف أمام الجماهير؛ ولكنهم لا يعلمون كم هو محلق في فضاء آخر فكري بعيد وبعيد؛ لقد بدأت المعاناة ربما تقترب من نهايتها، وتوشك مرحلة الاستقلال الفكري بعيدا عن الإملاء الذي يعاني منه؛ غير أن قراره هذا سيجر متاعب ومعاناة أخرى مرة ومريرة.
|
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام - كلية اللغة العربية |
|