Al Jazirah NewsPaper Thursday  25/06/2009 G Issue 13419
الخميس 02 رجب 1430   العدد  13419

أبا عبدالرحمن.. إذا كان هذا فِعلكم في محبّكم!! (2-2)
بقلم: د. محمد عبده يماني

 

إلى أستاذنا الكبير ومعلمنا الشيخ (أبو عبد الرحمن بن عقيل) نواصل بث الهموم ونسعى إلى حوار أدبي مع قمة من قمم اللغة والفقه والأدب، ودعونا نبدأ بالوقفة التالية، وهي الوقفة الحادية عشرة التي ألقي الضوء فيها على جوانب أخرى من النقاش، فأنت يا أبا عبد الرحمن قد جمَّلتني في سلسلة المقالات التي نشرتها ابتداء من الأربعاء 17 جمادى الآخرة، فسميتها أدبيات معالي الدكتور محمد عبده يماني، وما لي ولهذه الأدبيات، فما أنا إلا جيولوجي مولع بالأدب، وأتطفل على موائد الأدباء، فحمّلتني عفا الله عنك مسؤولية أكبر من قدرتي، وألبستني ثوبا فضفاضا، ولكني استمتعت بحديثك دون شك، ولن أستطيع أن أرد على كل الأجزاء، بخاصة حديثك عن الزبير بن بكار وإسناداته، ولكني سررت باعترافك بأن الدكتور غازي القصيبي كان في ختام قصيدته عبّر ببساطة شعرية وذكاء، وعلى أية حال فقد استمتعت أنا والزملاء بها وبقصيدة الصديق الدكتور الشاعر أسامة عبد الرحمن.

ولا أدري يا أبا عبد الرحمن كيف أردت أن تتنصَّل من مسؤولية الموقف المنحاز بقولك: (تنسّك ولم يتب من الغزل) ولا أخفيك أيها الصديق أنك قد أثقلت كاهلي بهذا الحديث المطول، رغم اختلافي معك في الرأي بخصوص الشاعر الراحل بيرم التونسي، وحملت الرجل ما لم يقل، فإنما كان يتكلم بحديث المؤمن الخاشع عندما دخل مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهو لم يدَّعِ أنه مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولا مثل أي صحابي آخر، بل شهدنا له في ختام حياته أنه كان ممن لا يفارق المسجد، وأناب إلى الله عز وجل، وسبحان من يقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات.

أما حديثك عن أخي معالي الدكتور عبد العزيز خوجة وأنت تصفه بالوالد، والرجل من أحفادك يا أبا عبد الرحمن، ولكن نعتبرك أستاذاً لنا حتى صاحبك غازي لا يتنصل من هذا. أما الدكتور عبد العزيز الخويطر فلعله أكبر منك سنا.

وقد نظرت نظرة عجيبة للبيتين:

فاق النبيين في خلق وفي خلق

ولم يدانوه في علم ولا كرم

وكلهم من رسول الله ملتمس

غرفا من البحر أو رشفا من الديم

وكم أتمنى أن تعيد قراءة القصيدة، وأنها لا تخرج عن عقيدة أهل السنة والجماعة، ولكنها تعبير شعري سامٍ وليس فيها أي لون من ألوان الشرك صغر أم كبر، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حظي بمكانة عظمى عندما ختم الله به رسالات السماء إلى الأرض، وشهد له بأنه على خلق عظيم، وفضله سبحانه وتعالى على كثير من العالمين، وقرن اسمه باسمه في الشهادة، وجاءت الآيات واضحة جلية في قوله سبحانه وتعالى:

1- قال الله تعالى:{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} سورة البقرة آية 253

2- وقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} سورة الإسراء آية 55

3 - وانظر -يا رعاك الله- إلى هذه الآية الكريمة التي تصف كيف أخذ الله العهد من جميع النبيين أن يؤمنوا به وينصروه وطلب إقرارهم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}سورة آل عمران آية 81.

أليست هذه الآيات أيها الشيخ الكريم دالة على عظيم مكانة هذا النبي وفضله، وما أكرمه الله سبحانه وتعالى به من رفعة وفضل فاق بها وسما - صلى الله عليه وسلم.

ثم دعنا يا أبا عبد الرحمن أن نطالع معا الأحاديث الصحيحة الواردة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قال أنا سيد الناس يوم القيامة، ولنرجع إلى حديث أبي هريرة:

1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم في وليمة فرفعت إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون لم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم، فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم فيأتون آدم عليه السلام، فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا فيقول آدم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي؛ نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى، فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبيا اشفع لنا، ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله قط ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبا نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم، فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي عز وجل ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب، فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما بين مكة وبصرى) متفق عليه واللفظ للبخاري.

2- ثم دعنا نناقش الحديث الذي رواه واثلة بن الأسقع الذي قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم) رواه مسلم.

3- وعن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي بالبراق ليلة أسري به مسرجا ملجما ليركبه فاستصعب عليه، فقال له جبريل ما يحملك على هذا؟، فوالله ما ركبك أحد أكرم على الله منه، قال فارفض عرقا (رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان وصححوه).

4- عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون) رواه مسلم.

5- وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعي قومه فيقال لهم هل بلغكم؟ فيقولون ما أتانا من نذير أو ما أتانا من أحد قال فيقال لنوح من يشهد لك فيقول محمد وأمته قال فذلك قوله: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، قال الوسط العدل، قال: فيدعون فيشهدون له بالبلاغ قال ثم أشهد عليكم). رواه البخاري

6- عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- حدثهم عن ليلة أسري به فقال: (.. الحديث بطولة في قصة الإسراء والمعراج وفيه.. ثم صعد به حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال جبريل. قيل: من معك.؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال نعم. قيل: مرحبا فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى عليه السلام، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد، ثم قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزته بكى، فقال: ما يبكيك؟ قال: ابكي، لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي،... (الحديث بطوله متفق عليه).

7- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أتيت بالبراق،... (الحديث بطوله في قصة الإسراء والمعراج، وفيه قول موسى: ربي لم أظن أن ترفع علي أحدا ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله،.. (وهذا لفظ البخاري).

8- وجاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال موسى عليه السلام يزعم بنو إسرائيل أني أكرم على الله، وهذا أكرم على الله مني (الحديث).

9- عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فصلى الغداة، ثم جلس حتى إذا كان من الضحى ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس مكانه، حتى صلى الأولى والعصر والمغرب والعشاء كل ذلك لا يتكلم، حتى صلى العشاء الآخرة ثم قام إلى أهله، فقال الناس لأبي بكر سل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأنه صنع اليوم شيئا لم يصنعه قط، فسأله فقال: نعم عرض علي ما هو كائن من أمر الدنيا والآخرة، فجمع الأولون والآخرون بصعيد واحد حتى انطلقوا إلى آدم عليه السلام والعرق يكاد يلجمهم فقالوا يا آدم أنت أبوالبشر اصطفاك الله اشفع لنا إلى ربك، فقال لقد لقيت مثل الذي لقيتم فانطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم إلى نوح إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين فينطلقون إلى نوح فيقولون اشفع لنا إلى ربك فإنه اصطفاك الله واستجاب لك في دعائك فلم يدع على الأرض من الكافرين ديارا فيقول ليس ذاكم عندي فانطلقوا إلى إبراهيم، فإن الله اتخذه خليلا فيأتون إبراهيم فيقول ليس ذاكم عندي فانطلقوا إلى موسى فإن الله قد كلمه تكليما فيقول موسى ليس ذاكم عندي ولكن انطلقوا إلى عيسى بن مريم فإنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فيقول عيسى ليس ذاكم عندي ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم فإنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة انطلقوا إلى محمد فليشفع لكم إلى ربكم. (رواه احمد وابن أبي عاصم وابوعوانة وابويعلى وابن حبان وابن خزيمة والبزار والمروزي والدولابي برجال ثقات)

قال إسحاق هذا من أشرف الحديث. وقد روى هذا الحديث عدة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو هذا منهم حذيفة وابن مسعود وأبو هريرة وغيرهم.

10- (عن أنس رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو الناس خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء لتشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، قال فيقول لست هناكم، قال ويذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة وقد نهي عنها ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحا فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب سؤاله ربه بغير علم ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن قال فيأتون إبراهيم فيقول إني لست هناكم ويذكر ثلاث كلمات كذبهن، ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة وكلمه وقربه نجيا قال فيأتون موسى فيقول إني لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب قتله النفس ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته، قال فيأتون عيسى فيقول لست هناكم ولكن ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني فيقول ارفع محمد وقل يسمع واشفع تشفع وسل تعط، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه فيحد لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة قال قتادة وسمعته أيضا يقول فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ثم أعود فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول ارفع محمد وقل يسمع واشفع تشفع وسل تعط قال فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه قال ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة قال قتادة وسمعته يقول فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول ارفع محمد وقل يسمع واشفع تشفع وسل تعطه قال فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه قال ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة. قال قتادة وقد سمعته يقول فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود قال ثم تلا هذه الآية (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) قال وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم) متفق عليه.

هذه يا أبا عبد الرحمن آيات وأحاديث حرصت أن أضعها بين يديك لتراجع هذه النصوص فلعلك توافقني على أن كل الذين وصفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بتلك الأوصاف العظيمة لم يخرجوا عن التوحيد، ولكن عبروا بصدق عن حبهم، وبلغة لابد أن نقلب ألفاظها وان نتعمق فيها حتى ندرك أن منابعها الحب والإيمان الصادق، وليس الغلو كما يتوهم الكثير من الناس.

الوقفة الثانية عشرة: أما حديثك يا أبا عبد الرحمن أننا ما تعبدنا الله بتلاوة الأشعار، وان كانت خالية من المآثم في مدح المصطفى المختار عليه الصلاة والسلام، فأنا أقول انك أجبت عن هذا بنفسك عندما ذكرت أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة الله سبحانه وتعالى، لأنها امتثال لأمره، وقد صدح بهذا الحب وهذا الدعاء رجال صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا تلك القصائد العظيمة، وأنت أعرف بها كالصحابيين: حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما، وصادق الحب أيها الأستاذ الجليل يملي صادق الكلم.

ومن الناحية الأخرى، فإننا نتفق على أننا جميعا نعبد إلها واحدا، لا نشرك به شيئا، نحبه ونجله عز وجل، ونحب رسول الله -صلى الله علي وسلم- سيدنا وقرة أعيننا، ونحب القرآن الكريم، ولكن الحب يا أبا عبد الرحمن ليس بواحد، فهو مراتب ودرجات، فهناك الحب العادي، والحب العابر، ثم الحب الكامل الذي علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب يوم قال له: (الآن يا عمر) والحب الذي جعلهم يفتدون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنفسهم ومثالا على ذلك موقف تلك المرأة من الأنصار يوم معركة احد عندما أشيع مقتل النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلت خبر مقتل أبيها وابنها وزوجها برباطة جأش فكلما ذكروا لها واحدا حمدت الله واسترجعت ثم تقول: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا خيرا، فلما رأت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أخذت بثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا أبالي إذا سلمت من عطب. وفي روايةٍ قالت: ما فعل رسول الله؟ قال بخير يا أم فلان - هو بحمد الله كما تحبيه - قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبةٍ بعدك جلل، أي هينة.

فالحب ليس بواحد يا أبا عبد الرحمن ونحن ربما لنشأتنا بين الحرمين وفي المرابع والأماكن التي عاش بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعبد الله فيها وولد فيها ونشأ فيها وصلى فيها وصام فيها ودعا الله فيها بجوار بيت الله العتيق في مكة المكرمة وفي المدينة المنورة؛ حيث الحرم النبوي الشريف، وقبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم والروضة النبوية الشريفة، وترددنا وعيشنا بين هذه الأماكن جعلنا نصدع بالحب ونعلن الحب لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ونتبعه، لأن الله قد أمرنا بذلك بل وأمر المسلمين جميعا فقال عز وجل: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ}.

وهكذا نحن في الحرمين الشريفين يا أبا عبد الرحمن نعلن الحب ونصدع بالحب ونكره من يكتب بصورة عابرة، ولا يتعمق ويعجل في الحكم على النصوص فيما يخص السيرة النبوية الشريفة، لأن حياتنا وعيشنا جعلانا ننشأ على هذا الحب، ونقرأه على أيدي أساتذتنا الذين تعلمنا منهم الكتاب والسنة في أروقة المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف وحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم- ومن هنا يا أبا عبد الرحمن نقول: إن الحب ليس بواحد، فهناك حب يدخل إلى قلوب الناس وعقولهم، وهناك من يدخل الحب إلى عقولهم ولا يلامس قلوبهم، ومنهم لا يلامس قلوبهم ولا عقولهم والعياذ بالله.

ولهذا قلت إن الحب ليس بواحد، ولنا في الرجال الذين كانوا حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبرة فهناك من أنفق ماله كله في حب الله ورسوله حتى تخلل بالعباءة، وهناك رجال عبروا عن الحب بطريقتهم يوم جاءه الأعرابي فقال يا رسول الله ادع لي أن أكون من أهل الجنة فقال له صلى الله عليه وسلم: (وماذا أعددت لها) فقال في براءة وعفوية: حب الله ورسوله. وفي وقت آخر بكى الصحابة بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتلقفوا ماء وضوئه الذي يتفلت من بين يديه الشريفتين ليتباركوا به وفي وقت من الأوقات جاء رجل آخر وشد الرسول من إزاره وهو يقول له: أعطني من مال الله فإنك لا تعطني من مال أبيك. وهو يحب الله ورسوله، ولكنه عبر بطريقته البدوية الخشنة، فالحب ليس واحداً يا أبا عبد الرحمن. وهنا يحلولي أن أذكرك بالأبيات التي جاءت في قصيدة أمير الشعراء في مدحه صلى الله عليه وسلم:

مديحه فيك حب خالص وهوى

وصادق الحب يملي صادق الكلم

هذا مقام من الرحمن مقتبس

ترمي مهابته سحبان بالبكم

البدر دونك في حسن وفي شرف

والبحر دونك في خير وفي كرم

شم الجبال إذا طاولتها انخفضت

والأنجم الزهر ما واسمتها تسم

والليث دونك بأسا عند وثبته

إذا مشيت إلى شاكي السلاح كمي

تهفو إليك وإن أدميت حبتها

في الحرب أفئدة الأبطال والبهم

محبة الله ألقاها وهيبته

على ابن آمنة في كل مصطدم

كأن وجهك تحت النقع بدر دجى

يضيء ملتثما أو غير ملتثم

بدر تطلع في بدر فغرته

كغرة النصر تجلو داجي الظلم

أما الوقفة الثالثة عشرة: فهي تتمة لحديثي لك عن موضوع شعر المحبة وشعراء المحبة الذين كان شعرهم مناجاة، واخترت لك مقاطع من قصيدة للأستاذ الكبير عبد العزيز الرفاعي صاحب المكتبة الصغيرة -رحمه الله-، وهو رجل كل ما فيه أدب، فقد نقل الأستاذ عاصم حمدان نصاً ادبياً رفيعاً في هذا المجال حيث يقول:

وقد زعمت بأنني لك عاشق

والعشق يستهدي القلوب مسامعا

فاذا تدفق خاطري فبفضله

وإذا تحجر لن اكف تطلعا

يا خير خلق الله مالي حيلة

إذا لم اصغْ معنىً فريدًا بارعا

هل نالت الرسل الهداة جميعها

قمما لغيرك قد أبت أن تخضعا

من كل صاحب آية لك آيةٌ

حبات تاجك يأتلقن لوامعا

والكوكب الدري سر سنائه

من كوكبين على جبينك شعشعا

نهران من نور فنهر رسالة

كملت فلم تترك لشك منزعا

ويقول الأستاذ عاصم حمدان عن روعة الأستاذ عبد العزيز الرفاعي في الربط بين كعبة السماء وكعبة الأرض والأقصى فيقول الشاعر:

الكعبتان وشيجةٌ ابديةٌ

تُدني من الأرض السماء مرابعا

وحججت للقدس الشريف تؤمه

بل انت كنت به الإمام الجامعا

هذي القداسات الثلاث جمعتها

وامتزت حين أضفت قدسا رابعا

المسجد النبوي مذ باركته

حرما له الإيمان يأرز طائعا

حرمان من مهد ولحد جمعا

ولغير ارضك قط لم يتجمعا

ويختمها مناجياً ورامزاً لنسبه الشريف قائلاً:

ابتي إذا ابتلّت بها شفتي ارتَوت

وشعرت اني لن أكون مضيعاً

رد السلام فإن وهبتَ زيادةً

فلأنت أهلٌ أن تزيد وتشفعا

الوقفة الرابعة عشرة: هنا يحلو لي يا أبا عبد الرحمن أن أناقشك في موضوع قصيدة البردة للإمام البوصيري في مدح الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم-، هذا الرجل الذي استطاع أن يؤثر في الأدب وفي الأخلاق بقصيدته هذه التي أصبحت تتردد على مدى سبعة قرون، وهي من القصائد الثلاث التي وقفت شامخة في المديح ودلت على نبل هذا الحب وأولها طبعا (بانت سعاد) لكعب ابن زهير، الثانية (الكواكب الدرية في مدح خير البرية)، والثالثة (نهج البردة) للشاعر أحمد شوقي، ولاشك أن البردة هي أشهر هذه القصائد، ولم تبلغ أي قصيدة تلك السمعة ولا التأثير في الوجدان الإنساني والديني لمن قرأها، وظلت على مدى سبعة قرون تعيش في وجدان الناس حتى غدت جزءا من مكونات روحية ووجدانية في حياة من قرأها من الناس، وحتى أصبحنا نسمع من يرددها من عرب ومن عجم، وقد غنت بها أم كلثوم فملأت الدنيا حبا وطربا وهيبة وإجلالا لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

وقال الدكتور زكي مبارك عن أثر هذه البردة وعن البوصيري إن البوصيري بهذه البردة هو الأستاذ الأعظم لجماهير المسلمين ولقصيدته الأثر في تعليمهم الأدب والتاريخ والأخلاق، وتلقى الناس طوائف من الألفاظ والتعابير غُنيت بها لغة التخاطب، ومن البردة عرفوا أبوابا عن السيرة النبوية، ومن البردة تعلموا أعظم درسٍ في الشمائل وأثرت البردة في الأدب والأخلاق وأصبحت على ألسِنةِ العوام.

ومثلك يا أبا عبد الرحمن من أتمنى أن يتعمق في هذه القصيدة، وفي حياة هذا الإنسان لأنه قد نسب إليه الكثير من الخرافات، وفسرت بعض أبياته على غير ما جاء في البردة نفسها، حتى قيل إن الرسول صلى الله عليه وسلم أتم بعض أبياتها للشاعر في رؤيا منامية، وهذا أمر لم يثبت عن الشاعر، والقرآن صريح في هذا الأمر: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}.

ودعنا نستعرض بعض تلك الأبيات بنظرة عمق وتفكر لنعرف أبعاد العظة التي أرادها البوصيري في مثل هذه الأبيات:

من لي برد جماحٍ من غوايتها

كما يرد جماح الخيل باللجم

فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتها

إن الطعام يقوى شهية النهم

والنفس كالطفل إن تهمله شب على

حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

ويعقبها:

أستغفر الله من قولٍ بلا عمل

لقد نسبت به نسلاً لذى عقمِ

أمرتك الخير لكن ما ائتمرتُ به

وما استقمتُ فما قولي لك استقمِ

ولا تزودت قبل الموت نافلة

ولم اصل سوى فرضٍ ولم أصمِ

ثم يقول:

ضللت سنة من أحيى الظلام إلى

أن اشتكت قدماه الضر من ورم

وشد من سغب أخشاءه وطوى

تحت الحجارة كشحاً مترف الأدم

وراودته الجبال الشُّم من ذهب

عن نفسه فأراها أيما شمم

وأكدت زهده فيها ضرورته

إن الضرورة لا تعدو على العصم

يا أبا عبد الرحمن هذه قصيدة تستحق إعادة القراءة والتفكر فاستمع إليه يقول:

هو الحبيب الذي ترجى شفاعته

لكل هولٍ من الأهوال مقتحم

دعا إلى الله فالمستمسكون به

مستمسكون بحبل غير منفصم

فاق النبيين في خَلقٍ وفي خُلُقٍ

ولم يدانوه في علمٍ ولا كرم

وكلهم من رسول الله ملتمس

غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم

وما أجمل بيته وهو يقول:

وقد تنكر العين ضوء الشمس من رمد

وينكر الفم طعم الماء من سقم

وأحسب يا أبا عبد الرحمن أن هناك من حمل الأبيات أكثر مما تحتمل عندما تحدث عن البيت الخاص بقول البوصيري: (ومن علومك علم اللوح والقلم) فحملها البعض على انه يقصد أن النبي صلى الله عليه وسلم يشترك مع الله عز وجل تعالت قدرته في معرفة ما في اللوح والقلم، مع أن هذا تفسير يحمل النص أكثر مما يحتمل، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما تعلم مما علمه الله، وقد أطلعه الله سبحانه وتعالى على كثير من الأمور الغيبية التي أرادها عز وجل، مما هو في اللوح المحفوظ وتنزل من الله عز وجل إلى السماء الدنيا، ثم بالوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو القرآن، وبعد ذلك ما علمه الله له من الأحاديث القدسية، وهذا كله بعلم الله وفضله، وكذلك الأخبار التي لا يعلمها أحد إلا الله عز وجل، علمها سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام، فعندما قال: (ومن علومك علم اللوح والقلم) فهذا إنما يشير إلى العلم الذي علمه الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وصدر البيت يا أبا عبد الرحمن (فإن من جودك الدنيا وضرتها) وهو تصوير شعري جميل لكرم النبي -صلى الله عليه وسلم- وجوده الذي فاق كل جود للبشر، فعندما صورها الشاعر البوصيري إنما أراد أن يبالغ في الوصف بصورة شعرية رائعة، فلا احسب أن فيها شركاً، وكل ما في الأمر أننا نحتاج إلى إعادة قراءة للقصيدة، والتمعن فيها لأننا جميعا نبرأ إلى الله من أي شرك أو حتى شبهة شرك فقد ولدنا والحمد لله على الفطرة، ونشأنا على التوحيد وكان كتاب الله عز وجل وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- هي حدودنا ورضوان الله هو غايتنا.

الوقفة الخامسة عشرة: عن وقوفك مع الأستاذ الأديب والصديق العزيز حمد القاضي فهو

(محرش.. محرش) ولا تعفيه شفاعتك فقد أشعل هذا الأمر بيني وبينك بعد أن أشعله بيني

وبين أخي الأديب الأستاذ الدكتور غازي القصيبي، ولن أسامحه إلا إذا أطفأ هذه

النار التي أشعلها بخاصة أنها بيني وبين عالم جليل وأستاذ فذ مثلك نستقي من علمه

وأدبه وصديق نعتز بأدبه وشعره.

الوقفة السادسة عشرة: أنا يا أبا عبد الرحمن ممن يعتز بحوارك ونقاشك خصوصا كتبك التي قرأتها عن الشعر في البلاد السعودية، وديوان الشعر العامي بلهجة أهل نجد، وهموم عربية بين الثقافة والحضارة، الذي جعلته السفر الرابع من الفنون الصغرى، والذهب المسبوك، ثم أحاديثك عن رباعيات الخيام، ولهذا فأنا لا أستطيع أن أجاريك يا أبا عبد الرحمن وأعتذر أن تجاوزت حدودي، ولنا في مشورة العمدة أبو تراب الظاهري عندما قال: (إذا قل اتعاظ المرء قل كلامه).

وختاما فلك احترامي وتقديري وسعادتي بمشاركتك في هذا الحوار ومعذرة إذا لم استطع المواصلة لأني قد جمعت حقائبي للسفر وأرجو أن نلتقي في رمضان إن شاء الله على اسعد حال.

وتقبل خالص احترامي وتقديري..


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد