Al Jazirah NewsPaper Monday  22/06/2009 G Issue 13416
الأثنين 29 جمادىالآخرة 1430   العدد  13416
بعد الخطاب المنتظر -2-
د.عبدالله الصالح العثيمين

 

أشير في الحلقة السابقة إلى ثلاثة أمور أولها أن وطننا العزيز... المملكة العربية السعودية... قيادة وشعباً راسخة الإيمان في وقوفها مع قضايا أمتنا، وفي طليعتها قضية فلسطين، وثانيها أن أي أمة تلقى مسؤولية حل قضاياها.

على عاتق غيرها ليست جديرة بالاحترام، وثالثها أن أمريكا- والحديث عن خطاب رئيسها الذكي - دولة مؤسسات، وأنها لو أرادت إداة تنفيذية ومؤسسة نيابية تستطيع أن تقف أمام الغطرسة الصهيونية، وأن هناك اختلافاً بين الرئيس الحالي لها بذكائه وألمعيته، ورئيسها السابق الذي يكاد يكون هناك إجماع على أنه الأسوأ بين رؤساء أمريكا، عجرفة قوة وارتكاب جرائم.

وإني لأكاد أجزم أن هناك اتفاقاً بين المتابعين لأوضاع أمتنا عرباً ومسلمين أن القضية المحورية من قضايا هذه الأمة هي قضية فلسطين ومن الصعب عدم وجود صلة مباشرة أو غير مباشرة بين هذه القضية المحورية وقضايا إسلامية وعربية أخرى، فإضعاف المسلمين في أي قطر من أقطارهم إضعاف لهم بتشتيت طاقاتهم عن مواجهة تلك القضية بما يتطلبه الواجب تجاهها. وما حدث - ويحدث - في السودان وإيران والعراق وأفغانستان أمثلة على ذلك.

وما ورد في خطاب الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، الذي وجه إلى أمتنا الإسلامية من الكنانة منطلق تحرير فلسطين - فيما مضى من قرون مشرقة- من الصليبيين ومن التتار، عن قضية فلسطين بالذات هو أيضاً المسألة الجوهرية في ذلك الخطاب، وقبل أن أتناول هذه المسألة سأشير إلى مسائل أخرى.

مما لفت نظري - وربما أنظار كثيرين غيري - مهارة معدي خطاب الرئيس الدهاة، ومعرفتهم بأن أمتنا أمة شاعرة يهمها أسلوب التناول أكثر مما يهمها مضمونه، لذلك كان تصفيق الحاضرين لاستماع ذلك الخطاب ومشاهدة ملقيه يشبه تصفيق المبتهجين في صفوف الردِّية عند أهل الشعر النبطي، وبخاصة عندما كان يورد معنى بعض الآيات القرآنية ومن هذه الآيات آية:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}. ومن المعروف أن الأحكام الواردة في الشرائع السماوية قبل الإسلام شريعة لأمتنا ما لم يوضح الشارع خلاف ذلك. وإيراد الرئيس أوباما لمضمون الآية الكريمة أتي به رداً على من قاموا من المسلمين - وهم شرذمة من الذين بذروا بذور أفكارها أمريكا في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي- بأعمال يرفضها العقل السليم.

نعم إن الحكم الواردة في الآية الكريمة حكم عظيم من أعدل الحاكمين لكن المرء سيكون مقتنعاً لو أن مورد الآية ليس من دولة قامت أساساً على إفناء شعب سمي بالهنود الحمر، أو ليس من دولة - كما قال رئيس وزراء روسيا الاتحادية قبل أيام - تملك الترسانة النووية وهي الدولة الوحيدة التي سبق أن استعملتها. بل لو أنه ليس من دولة علم الناس كلهم جرائمها الأخيرة ضد أمتنا في العراق، تقتيلاً واغتصاباً وتدميراً بل لو أنه ليس رئيساً لدولة تقتل المئات من الملايين في أفغانستان وباكستان.

ولقد استخدم معدو خطاب الرئيس الأمريكي الدهاة التاريخ محاولة لإظهار تعاطف زعماء أمريكا مع المسلمين والإسلام منذ القدم فورد في الخطاب إشارة إلى قيام ثاني رئيس لتلك الدولة، جدن آدمز بالتوقيع عام 1796م - على معاهدة طرابسل وقوله: (إن الولايات المتحدة لا تكن أي نوع من العداوة تجاه قوانين أو ديانة المسلمين أو حتى راحتهم) وهذا القول الجميل وبخاصة عند من لم يقرأ تاريخ قائله فمن الثابت أن جون آدمز هو نفسه الذي طالب عام 1818م بقيام دولة يهودية مستقلة في فلسطين، أي قبل إعلان وعد بلفور المشؤوم بمئة عام، وأن أول رئيس أمريكي وربما غربي - يؤيد ذلك الوعد هو الرئيس ويلسون صاحب المبادئ المشهورة، وذلك بعد بضعة أشهر فقط من صدوره. هل ذلك الموقف لجون آدمز وللرئيس المشهور بمناداته بمبادئ عظيمة، ويلسون، موقف من يكن للمسلمين مودة؟

ومن المسائل التي وردت في خطاب الرئيس أوباما، وأبدت ببراعة، حادثة الحادي عشر من سبتمبر التي قيل: إنه قتل فيها ثلاثة آلاف من الرجال والنساء والأطفال وما ارتكب في تلك الحادثة أمر يتنافى مع تعاليم الأديان والأعراف السليمة حتى لو لم يكن بين الذين قتلوا نساء وأطفال. على أن في طليعة من تضرر بسبب ارتكاب الحادثة المشؤومة عموم المسلمين وقضاياهم فقد استغل أعداء أمتنا ما ارتكب لتهيئة المناخ للعدوان عليها وكأنها كلها المسؤولة عما جرى. لكن أسئلة عديدة ما زالت تطرح، ولا أظنها غائبة عن ذهن ألمعي مثل الرئيس أوباما. ومنها من الذين كان لهم دور واضح في وضع أرضية لنشأة الفكر المنحرف لمن قاموا به؟ ألم تكن تلك الأرضية في أفغانستان التي قادت أمريكا دعم المقاتلين فيها ضد القوات السوفيتية حيث ترعرع ذلك الفكر في بيئة تجعل حياة الإنسان عند المحرضين غير ذات قيمة؟ وكيف استطاع نفر القيام بما قاموا به في دولة استخباراتها تعدُّ أنفاس الآخرين في بقاع كثيرة من العالم؟ وكيف - والمكان المستهدف- مكان تجارة لم يكن من الذين كانوا فيه إلا إسرائيلي واحد؟ وهناك أسئلة وأسئلة على أن الأهم هو: إذا كان من ارتكبوا ذلك العمل جماعة ضالة الفكر فماذا يقال عن دولة كبرى ارتكبت - وما زالت ترتكب- جرائم راح ضحيتها مئات الآلاف من الأطفال في العراق، تجويعاً وحصاراً قبل عدوانها عليه واحتلاله، وتقتيلاً لأهله وتدميراً لبنيته الأساسية بعد ذلك الاحتلال؟ وماذا يقال عن هذه الدولة الكبرى التي حشدت جنودها أجمعين في أفغانستان، وارتكبت من جرائم القتل، ورمت الكثيرين في معتقلات هي العار والخزي داخل تلك البلاد، وفي سجون سرية خارجه، وفي غوانتانامو، ثم ظلت طائراتها الجبارة تقصف مدنيين في كل من أفغانستان وباكستان؟

ومن المعروف أن عدوان أمريكا- دولة الرئيس المحترم- على العراق كان مبنياً على ادعاء كاذب، وأن الأمين العام للأمم المتحدة نفسه قد أوضح أنه كان يتنافى مع الشرعية الدولية. ومن المعروف، أيضاً، ما نتج عن ذلك الإجرامي من احتلال أدى إلى جرائم فظيعة يضيق مجال الحديث عنها هنا.

لكن الغريب في الأمر أن الرئيس أوباما بدلاً من الاعتذار للشعب العراقي عما ارتكبته دولته خدمة للصهاينة بالدرجة الأولى، والوعد والالتزام بالتكفير عن الجرائم المرتكبة بحقه أظهر تلك الجرائم وكأنها مكسب للشعب العراقي.

ما دام الرئيس الأمريكي أراد - ما ورد في خطابه - أن يقول الحقيقة فقد كان المتوقع منه أن يشير - وإن بطريقة ذكية غامضة- إلى ما قاله وزير خارجية أمريكا، جيمس بيكر، من أن تحطيم قوة العراق فيما سمي عاصفة الصحراء كان من أكبر الخدمات التي قدمتها دولته للكيان الصهيوني، وإلى ما قاله رئيس أركان القوات الأمريكية، بعد احتلال أمريكا للعراق وتحطيم قدراته، من أن ما قامت به دولته كان لمصلحة ذلك الكيان.

هذان الرجلان المسؤولان شهدا بوضوح فبينَّا من الكاسب الحقيقي نتيجة ما ارتكب ضد العراق.

وتبلغ درجة محاولة الهروب من الواقع عندما لم يصف الرئيس أوباما مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال بالإرهاب - وهذا شيء طيب - بل وصفها بالعنف. بطبيعة الحال لا يتوقع منه ولا من أي رئيس أمريكي أو زعيم غربي أن يصف المجازر التي أرتكبها الصهاينة ضد الفلسطينيين قبل إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين وبعد إقامته، وهي مجاز آخرها لما تجف دماؤها بعد في غزة، بأنها أعمال عنف، ناهيك عن وصفها بالإرهاب، والغريب أن الصهيوني مناحيم بيجن - الحائز على نوبل للسلام مع الرئيس السادات - قد ذكر في كتابه الثورة أن إقامة الدولة الصهيونية كان بالإرهاب، ولولا الإرهاب لم تقم، على أن الأغرب هو أن يطالب الرئيس أوباما الفلسطينيين بإيقاف المقاومة التي سماها عنفاً ناصحاً إياهم بأن يعملوا كما عمل السود في أمريكا، إذ حصلوا على حقوقهم بدون اللجوء إلى العنف. هل يخفى على ألمعي مثله وجود فرق واضح بين وضع من يطالبون بمساواة داخل وطنهم، ووضع شعب لم تحتل أرضه فحسب، بل احتلت وأرغم كثير منه على مغادرتها خوفاً من المجازر، وما زالت تلك القوة المحتلة ترتكب المجازر - وتهوِّد الأرض لتحل محل أهلها آخرين أتوا من جميع أنحاء العالم، هل يخفى عليه ذلك الأمر؟ لا يظن ذلك كاتب هذه السطور، الذي يودع القارئ الكريم إلى لقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد