رغم كثرة الندوات والنقاشات والمقالات حول الليبرالية، لا يزال السؤال قلقاً وحذراً وربما متربصاً في عالمنا العربي: ما هي الليبرالية؟ وماذا تريد؟ حسناً، المبادئ العامة لليبرالية هي الحرية والمساواة والمشاركة في القرار، وما بعد ذلك تتفرّق التيارات الليبرالية ذات اليمين وذات اليسار، وتختلف كثيراً خاصة في الاقتصاد..
ما فائدة هذا التوضيح الفضفاض طالما أن أغلب النظم الاجتماعية الحديثة تؤمن بتلك المبادئ بشكلها العام.. فماذا بقي من معنى لمصطلح الليبرالية؟ في الواقع ثمة كثير يزخر به، لأن أي مصطلح لا يتضح من تعريفه العام، بل في توصيفاته وتطبيقاته ومواقف المقتنعين به.. أسئلة الليبرالية متنوّعة، وسبق أن ناقشت بعضها.. هنا محاولة للفهم من خلال علاقة الليبرالية السياسية مع غيرها، ترجمتها بتصرف مع إضافات توضيحية لا تخلُّ بالمضمون، من موسوعة ستانفورد للفلسفة (2007).
نبدأ بالسؤال الأولي الذي يُقلق كل مذهب سياسي: هل الليبرالية السياسية مناسبة لكل الجماعات السياسية والدول في العالم؟ كلا! يجيب جون رولز (Rawls)، أحد أهم المفكرين الليبراليين المعاصرين، طارحاً فكرته الجريئة في كتابه (قانون الجمهور) عام 1999، بأنه يمكن أن يكون هناك مجتمع هرمي لائق (عقلاني) غير مبني على المفاهيم الليبرالية التي تقول بأن كل الأفراد أحرار ومتساوون، وعوضاً عن ذلك يكون الأفراد مسؤولين ومتعاونين داخل جماعاتهم، ولكنهم ليسوا متساوين. فالمفهوم الليبرالي الكلي للعدالة لا يمكن بناؤه من الخارج دون المشاركة الفكرية للناس في داخل ذلك المجتمع الهرمي، رغم أن حقوق الإنسان الأساسية تنطبق على كل البشر. إلا أن مفكرين أمثال توماس بوجي ومارثا نوسبوم (2002) يرفضون موقف رولز المضاد لعالمية مبادئ الحرية والمساواة الليبرالية، ويرون أن المبادئ الإنسانية الليبرالية تنطبق على كل الدول.
السؤال السابق لا ينبغي أن يخلط مع سؤال آخر: هل الليبرالية نظرية لدولة معينة أم أنها على الأقل مثالياً نظرية سياسية عالمية لكل الجماعات البشرية؟ الفيلسوف كانط (1795م) يرى أن كل الدول ينبغي عليها احترام كرامة مواطنيها كأفراد أحرار ومتساوين، ولكنه ينكر أن الإنسانية تتشكل في نمط سياسي واحد؛ ويعترض على فكرة توحيد الليبرالية في مجموعة عالمية تشترك ضمنياً في دساتير وتتحد كدول في كونفدرالية لضمان السلام.
بالنسبة لليبرالية الكلاسيكية ليس مهماً التفريق بين عالم مجتمعات ليبرالية والمجتمع الليبرالي العالمي، لأن هدف الحكومة في المجتمع هو ضمان حقوق الحرية الأساسية والملكية لمواطنيها، فلا تصبح الحدود الدولية ذات أهمية كبرى (لوماسكي 2007). بينما الليبرالية الحديثة تلحُّ على مبادئ توزيع الثروة لبلوغ العدالة الاجتماعية، بغض النظر أن تلك المبادئ تنطبق داخل مجتمعات معينة أو يتم بلوغها عالمياً. لذا ظل الخلاف كبيراً بين مفكري الليبرالية المعاصرين في وجوب تطبيق مبادئ الليبرالية داخل الدول الليبرالية فقط أم ينبغي تطبيقها عالمياً لأنها مكاسب إنسانية عالمية (رولز، بوجي، بيتز).
ويمتد الخلاف بين الليبراليين في طريقة التعامل مع المجتمعات والفئات المتشددة التي قد تنكر الحقوق الأساسية لبعض أفرادها أو تمارس عليهم الوصاية أو تصادر حرياتهم الدينية والفكرية..إلخ. هل من السليم للجماعة الليبرالية أن تعرقل السيطرة الداخلية للجماعة المتشددة؟
إذا افترضنا أن الفئة المتشددة هي جماعة سياسية أو دولة.. هل يمكن لليبراليين التدخل في شؤون الدول غير الليبرالية؟ يجيب الفيلسوف ملّ في مقالة خاصة بذلك عام 1859م، أن البلدان المتحضرة وغير المتحضرة ينبغي أن يتم التعامل معهما بطريقة مختلفة، فلا حق للبرابرة كأمة.. فطالما أن الأخلاق الدولية تبادلية فإن الحكومات الهمجية لا يمكن حسابها وليس لها حقوق متساوية للحكومات المتحضرة. هذا المنطق التعسفي كان متناغماً مع الروح الإمبريالية لبريطانيا الاستعمارية آنذاك. ولكن ملّ يعود ويوضح أنه يعترض على تدخُّل دولة في شؤون دولة أخرى من أجل حماية المبادئ الليبرالية.
إذا كانت الليبرالية تؤمن بحق الجماعات في اتخاذ قراراتها الخاصة، فهل يحق أخلاقياً أن يتدخل الليبراليون في الجماعات غير الليبرالية لتتكيف مع مبادئهم الإنسانية في الحرية والمساواة؟ فكما يؤمن الليبراليون بحرية الأفراد، فإنهم أيضاً قد يؤمنون أن للجماعات الحق في ارتكاب الأخطاء الإنسانية لإدارة شؤونهم الجماعية الخاصة بهم. فالأفراد الذين تُصادر حرياتهم داخل مجتمعات معيّنة هم أنفسهم قد يعترضون على إقحام مبادئ الحرية الليبرالية أو حتى يتضررون منها (مارجاليت وراز، 1990؛ تامير، 1993).
لكن رولز يعتقد أن الليبراليين يجب أن يميّزوا عند التعامل مع الجماعات المتشددة بين تلك العقلانية وبين الخارجة على القانون، الأولى يمكن التعايش معها على عكس الثانية؛ فالمجتمعات العاقلة لا تتسامح مع الدول الخارجة على الشرعية التي تتجاهل حقوق الإنسان؛ فمثل هذه الدولة قد يحق أن تكون عرضة للعقوبة بالقوة والتدخل الخارجي. إلا أن رولز يصرّ على أن العقلاء الذين يرفضون مبادئ الحرية الليبرالية ينبغي تشجيعهم وليس إرغامهم على تلك المبادئ. أما شاندران كوكاثس (2003) وهو مفكر ليبرالي كلاسيكي فيميل إلى التسامح الكامل مع الناس الذين لا يؤمنون بمبادئ الحرية الليبرالية مع تحفظ أن تكون هناك حقوق اعتراض.
وتمتد أسئلة العلاقات إلى داخل الدولة الليبرالية: إلى أي مدى يحق للجماعات المتعصبة دينياً أو ثقافياً أو سياسياً أن تُعفى من متطلبات الدولة؟ الدولة الليبرالية لها تاريخ طويل في استيعاب الجماعات المتعصبة، لكن جلاستون (2003) يطرح أن المشكلة الكبرى هي مع الجماعات المتعصبة التي تربي وتعلّم الأطفال، فلا يمكن النظر إليها على أنها جماعات تطوعية نقيَّة لها حق خيار رفض متطلبات الدولة الليبرالية: فهم يمارسون القوة الإكراهية على الأطفال، لذا فإن المبادئ الليبرالية الأساسية حول حماية الأبرياء من الإرغام غير العادل ستلعب دورها هنا. وهنا سنواجه صداماً حاداً بين السلطة الأبوية المتعصبة وحقوق الأطفال وفق الفهم الليبرالي. هذا يجعل التسامح مع الجماعات المتشددة التي تعيش محلياً داخل الدولة الليبرالية (بما فيه حقها في الاعتراض) يبدو أقل جاذبية من التسامح معها على النطاق الدولي. ورغم ذلك فيظل بعض مفكري الليبرالية (لوكاس سوين 2006) مقتنعاً أن الليبراليين يجب أن يضمنوا شبه سيادة للجماعات المحلية غير الليبرالية، تسمح لهم بحرية التصرف بشؤونهم على حسب طريقتهم.
ثمة سؤال آخر، إلى أي مدى يسمح للجماعات الرافضة لمبادئ الليبرالية أن تشارك باتخاذ القرارات في الدولة الليبرالية. في كتابه (الليبرالية السياسية)، يذكر رولز أن مجتمعاتنا تتصف بأنها جماعية عقلانية، ومن ثم لا يمكن إرغامها على التغيير بمبرر يستند على أساس إيمان بأخلاقيات شمولية أو نظم دينية. ولكن بعض الليبراليين المقرّبين من الأوساط الدينية (إبيرل 2002 وبيري 1993) يطرحون أن مثل هذا الاعتراض هو إقصاء واضح للمتدينين. ومرة أخرى يتباعد الليبراليون في مواقفهم لدرجة أن يتساءل المرء هل ثمة ما يبقى يوحّد الليبراليين...؟
alhebib@yahoo.com