لآن تعليمنا يعاني من أزمات خانقة لذا فإن النقاشات التي تدور حوله تدور في معظمها -ولها الحق- في المظاهر الكسيحة لهذا النظام وكيف ينعكس على الممارسات اليومية لأجهزة التعليم وعلى مخرجاته كعلاقة هذا النظام باحتياجات سوق العمل او مستوى الخريجين في المهارات الأساسية مثل اللغة العربية والرياضيات...
وكلها قضايا جوهرية تمس قلب النظام وسنستمر في تناولها طالما ظل هذا النظام بحالته المحزنة التي هو عليها اليوم لكنني أعتقد بأهمية رفع سقف هذه النقاشات لتشمل الأطر الفلسفية الجديدة المطروحة على الساحة العالمية التربوية وكيف يمكن في خضم أفكارنا حول التطوير أن نتلمسها وأن نحاول فهمها وتفعيلها داخل جدران مدارسنا.
من المهم أن نرفع سقف المناقشات حول التعليم من مستوى التطبيق وما يحدث على ارض الواقع إلى مستوى التنظير.. إلى الأسس الفلسفية التي تعد الأساس في بناء روح هذا النظام وفي ممارساته.
ومن أهم الدعوات التربوية المطروحة في السنوات الأخيرة على الساحة التربوية العالمية وفي المناظرات الأكاديمية المتخصصة هي مقابلة فلسفة وممارسات النظام التربوي التقليدي بما يسمى في الطروحات الجديدة في علم التربية بالتعليم النقدي الذي يهدف إلى إنشاء نماذج جديدة من المعرفة المقدمة للمتعلم في المؤسسات المدرسية مبنية على فكرة ان التعليم لا ينبغي ان ينظر اليه من خلال أطره التقليدية في إنتاج وإعادة إنتاج المعرفة الاجتماعية المتداولة مثل تدريس التخصصات والمعارف المتخصصة وإنتاج ما يحتاجه المجتمع من جيوش الموظفين الحكوميين أو الجنود أو الأطباء الخ من المهام الوظيفية المختلفة إلى جانب نقل التراث الثقافي للبلد والمحافظة عليه عبر الأجيال فقط.
التعليم كما يراه منظرو التعليم النقدي هو عملية في أساسها تهدف إلى ربط ممارسات التدريس ومحتوى ما يدرس بالأسس التي تساعد وتحافظ على تنمية مفاهيم وممارسات المجتمع الديمقراطي من خلال ما تمارسه المدرسة ومن خلال أدوار المعلمين في مساعدة الدارسين على إدراك التحولات التاريخية الكبرى وفهم المبادئ والقيم الأخلاقية التي تبنى عليها لخلق وتأكيد مفاهيم المجتمع الديمقراطي على المستوى المحلي والعالمي بما ينشر مفاهيم عامة اتفقت عليها الأديان والحضارات المعاصرة وبما يساعد على حفظ حضارتنا الإنسانية من التطرف والانغلاق والانعزال.
يحدث ذلك من خلال أدوار المعلمين كمعلمين نقديين ومن خلال وجود اتصال بين مؤسسات التعليم وبين الحياة المدنية الديمقراطية ومن خلال تدريس القيم الديمقراطية والمبادئ التي تقوم عليا وجعلها كلها قضايا مركزية مثل الطرح والمناقشة من قبل المعلمين في المواد المختلفة لمفاهيم أصبحت اليوم حاضرة في كافة المؤسسات مثل مفاهيم العدالة الاجتماعية ومظاهر عدم المساواة وكيفية فهمها وفهم جذورها والمشاركة للقضاء عليها وتخفيف المعاناة الإنسانية حولنا سواء على المستوى القطري او العالمي بما يساعد الطلاب على تكوين رؤية نقدية للحياة من حولهم وللعالم كجزء يؤثر فعلا في تشكيل امن ورخاء هذا العالم وبطريقة تمكنهم من المشاركة في صياغة مفاهيمه.
وتعمد الكثير من الدول إلى ربط المدرسة بواقع الحياة المدنية وما فيها من ممارسات عامة عن طريق إثراء التجربة المباشرة للطلاب من خلال ممارسة بعض الأنشطة التي تدرب الطلاب على خوض التجربة الديمقراطية منذ الصغر ففي كندا وكما أشارت مقالة تربوية نشرتها جريدة الحياة في عددها الصادر في 11 يونيو الماضي إلى تجربة المدارس الكندية الابتدائية بالتعاون مع البلديات الكندية بتأسيس (مجالس محلية) للأطفال تحاكي بتشكيلها وتنظيمها والياتها وإدارتها ومهماتها المجالس البلدية الرسمية فبموجب النظام الداخلي لمجالس الأطفال يتم الترشح لثمانية أعضاء ممن يكونون في الصف الخامس أو السادس الابتدائي ويتم وضع أسماء المرشحين وكافة المعلومات عنهم وتتم الانتخابات في مركز للاقتراع تشرف عليها البلديات الرسمية حيث يتولى المرشحون الإعداد لحملاتهم الانتخابية من خلال البرامج والشعارات وتتم عملية الانتخاب في شكل هادئ ومنظم حيث يصطف الطلاب لاختيار مرشحيهم في حين تتولى لجنة الإشراف على العملية الانتخابية وعد الأصوات تماما كما يحدث في أي عملية انتخابية لدى الكبار.
من هنا يتاح للطلاب تعلم العملية الديمقراطية ومبادئها وكيف تتم منذ الصغر وممارستها ميدانيا بحيث يكونون معدين لها عندما يكبرون لاستكمال ذات الطقوس الانتخابية.
وفي الولايات المتحدة يكون نموذج الأمم المتحدة (UN Model) متطلبا أساسيا لطلاب السنة النهائية في الثانوية حيث يشترك الطلاب في ناد يطلق عليه نادي الأمم المتحدة ويمثل كل طالب بلدا ما ليدافع عن قضاياها وهمومها وكأنه في داخل مبنى الأمم المتحدة وعليه أن يجهز كافة المعلومات المتعلقة بذلك البلد وقضاياها المعروضة في الأمم المتحدة كما عليه أن يتدرب على كتابة ما سيطرحه من قضايا في حدود الوقت الذي تتيحه الأمم المتحدة فعلا ويتدرب على إلقائها والدفاع عنها حين يتدخل بلد آخر بالاعتراض او الرفض كما يكلف الطلاب بحضور المؤتمر السنوي للأمم المتحدة والذي تعقده في العادة احدى الثانويات الكبري في نفس البلد او قد يسافر الطلاب لولايات أخرى أو بلدانا أخرى لحضور المؤتمر حسب التمويل الذي يتوفر للمدرسة.
إن هذه التجربة النادرة التي لا يحظى ولا يحلم طلابنا في أي مرحلة بمثلها تعود الطالب على تعلم حل النزاعات واستعراض وجهات النظر المخالفة او البديلة على أسس ديمقراطية وقبول الفشل ومحاولة العودة مرة أخرى لتحقيق الأهداف وكل هذه مهارات سيحتاجها الطالب في أي ميدان كما ستساعده على خوض وفهم العملية الديمقراطية داخل مؤسسات المجتمع الحكومية والمدنية وكيف تحدث منذ صغره ليكون جزءا من إحداثها واستمرارية فعاليتها حينما يكبر.
تجارب كهذه داخل المدرسة ستعود الطلاب على فهم العمليات الديمقراطية وإدراك أسس التشكيل الاجتماعي للأصوات المختلفة داخل المجتمع الواحد وكيفية ارتباطها بالقوى التاريخية والاجتماعية وكيفية استخدامها كأساس للتغيير.. إنها تعمق المعنى النقدي الذي يمكن أن تخلقه المدرسة ويحفزه المعلمون في حياة الطلاب بحيث تصبح الممارسات التربوية نشاطا يزود الطلاب بنماذج جديدة للمعرفة ترجع في أصولها لرؤية تعددية ديمقراطية لمجتمع يتسع للجميع.
ولعل التجارب الذكية التي يحاولها جاهدا مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني لخلق بعض الممارسات الحوارية والأنشطة المجتمعية تكون بداية طيبة لفهم الأسس التعددية والديمقراطية التي تقوم عليها المجتمعات في عصرنا الحاضر لكن يجب تعزيز دور المدرسة كمؤسسة يومية يذهب الطلبة اليها ويقضون فيها كل هذا الوقت والنظر لها كأداة أساسية في أي تشكيل ثقافي او اجتماعي او سياسي.
والتربية هي قبل كل شيء عملية سياسية وثقافية فنحن يتم تشكيلنا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا عبر مؤسسة المدرسة التي تقولبنا بالطريقة التي يرغب فيه النظام المحيط. المؤسسة التربوية تتداخل في حياتنا وتؤثر في اتجاهاتنا وفي رؤيتنا وتفسيرنا لما حولنا، بحيث نصبح في حقيقة الأمر مجرد منتج سياسي ثقافي يقولب بواسطة الثقافة المجتمعية التي تستخدم المدرسة كوسيط أساسي لنقل ملامحها ونقوم نحن كبشر مسالمين بإعادة إنتاج ما تراه هذه الثقافة السائدة دون اعتراض!
من هنا ركزت المداخل الحديثة للتربية على الأسس الفلسفية التي يجب أن يبنى عليها النظام التربوي التي يجب الا تغيب عن صانع القرار بحجة ان لدينا مشاكل أكثر إلحاحا مثل كثافة الفصول ورداءة المباني المستأجرة وضعف مستوى المعلمين وهذه كلها حقائق ملموسة لكنها في الحقيقة لا تنفي الدور الذي تقوم بها المدرسة على أية حال كممارسة يومية لخمسة ملايين طالب على مستوى التعليم العام وأن هذه الممارسة لابد أن تخضع لفلسفة هي المحرك الأساسي لعمليات التفاعل الداخلية داخل هذه المؤسسات ولطبيعة مخرجاتها لاحقا بما يؤكد أهمية طرح الوظيفة النقدية والتحويلية للمدرسة كأساس فلسفي لنظام التعليم يجعله جزءا من عمليات التحول الديمقراطية التي تسعى لها الحضارة الإنسانية اليوم لخلق مجتمع آمن ومتسع للجميع وفي النهاية كل منا على ضآلته يلعب هذا الدور في تشكيل العالم شئنا أم أبينا.