في كل تقرير يصدر عن منظمة العفو الدولية نجد تطويراً للأداء فهي لم تعد منظمة تهتم بصورة تقليدية بحقوق الإنسان، بل عملت على تطوير منهجها، إذ تطورت إلى المنهج الإستراتيجي لعلاج قضايا الحقوق على المستوى العميق معززة مصداقيتها فيما تتناوله من مواضيع.
وفي تقريرها السنوي لعام 2008م الذي تجاوز أربعمائة صفحة نجدها تناقش قضايا هامة لم تكن تدرج من قبل في أدبيات حقوق الإنسان، ففتحت بذلك الأنظار على دور الأمن السياسي في تعزيز حقوق الإنسان.
لقد ذكرت أن الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ووجود القوات الأمريكية في العراق، والقلق بشأن المقاصد النووية الإيرانية تعتبر من العوامل التي أدت إلى انعدام الأمن السياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبهذا تكون قد أكدت أن الأمن السياسي هو من الحقوق التي يجب أن يحميها المجتمع الدولي، كما أكدت دور الاضطهاد العرقي، ودور الأزمة المالية العالمية وانعكاساتها على الأمن الاقتصادي، بالإضافة إلى دور جرائم الشرف التي تنتشر في بعض المجتمعات التي يستخدم الشرف فيها مبرراً لارتكاب الجائم ضد الإنسان وحقوقه.
لقد أكدت المنظمة في تقريرها على عوامل انعدام الأمن السياسي، فجعلتها في ثلاثة هي: الانقسام بين العلمانيين والإسلاميين، والتوتر القائم بين التقاليد الثقافية والطموحات الشعبية، وزيادة الإحساس بانعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي بسبب الأزمة العالمية، واتخذت من العدوان الإسرائيلي على غزة في شهري ديسمبر ويناير الماضيين دليلاً على انعدام الأمن بمنطقة الشرق الأوسط، مما يؤكد عجز الجانبين عن التفاهم، وتخاذل المجتمع الدولي في إيجاد الحل المناسب لهذا الصراع.
ومن أهم ما تناوله التقرير هو الدور العرقي والعنصري في انتهاك حقوق الإنسان، وجعلت المنظمة من أحداث السودان والصومال مثلاً لذلك، مؤكدة أن حالات الاعتداء على المدنيين، وتدمير القرى، والاغتصاب لا تزال تتفشى في السودان، كما أشار التقرير إلى اندلاع القتال بين شمال السودان وجنوبه في منطقة أبيي مظهرة عجز الجهات المسؤولة في وضع الحلول اللازمة لهذه الانتهاكات.
أما الصومال فقد تزايد فيها القتلى حتى تجاوز العدد خلال الستة أشهر الماضية ستة عشر ألف إنسان، وأن عدم قدرات منظمات الإغاثة في إيصال المواد المطلوبة إلى المحتاجين فاقم من الأزمة.
وحول البحث في جرائم الشرف تعرض التقرير لبعض الدول التي تفاقم هذا النوع من الجرائم فيها، مما نجم عنه قتل بعض النساء، فامتلأت السجون بمرتكبي هذا النوع من الجرائم، وأدرجت أربع دول عربية كأكثر دول العالم في ارتكاب هذا النوع من الجرائم.
وفي المقابل أشاد التقرير بالتطور الإيجابي في مصر بالحد من جرائم الشرف، واعتبرت حظر السلطات المصرية لعادة ختان الإناث تطوراً في سجل حقوق الإنسان، كما أشاد التقرير بإدخال السلطات العمانية والقطرية بعض التعديلات التي ساعدت على تحقيق المساواة بين المرأة والرجل.
لقد استهلت إيرين خام الأمينة العامة للمنظمة الجزء الأول من التقرير بمقدمة عميقة ركزت فيها على الأزمة الاقتصادية العالمية، واعتبرتها أزمة لحقوق الإنسان، وبهذا استطاعت ايرين خان الكشف عن شكل آخر لانتهاك حقوق الإنسان هو أشد وطأة على حقوق الإنسان، لكن الكثير غفلوا عنه، فقد ذكرت بشكل خاص على أنانية وجشع حفنة من الأغنياء أثروا على مصير الملايين من بني البشر، وانتهكت حقوقهم، لهذا قالت: (الأغنياء مسؤولون عن معظم المآسي، لكن الفقراء هم من يكابدون ذلك).
لم تقف السيدة خان عند الأغنياء فقط، بل انتقدت الحكمة الغنية وتقصيرها في مد يد المساعدة إلى المجتمعات الفقيرة، وأن الأزمة المالية كشفت أن الحكومات الثرية قادرة على توفير المبالغ التي تكفي للقضاء على الفقر، لكنها قامت بضخها بسخاء في المصارف الفاشلة.
وفي النهاية أشارت إلى المؤسسات الدولية، وأنها قامت بتمويل الإصلاحات القانونية في القطاع التجاري في بعض البلدان النامية، لكنها لم تبذل المساعي المطلوبة لضمان قدرة الفقراء على تأكيد حقوقهم، والمطالبة أمام المحاكم إنصافهم من الحكومات والشركات.
لقد أكدت خان على تحرير الاقتصاد، لأن بقاءه بوضعه الراهن سوف يكون عاملاً من عوامل الإفقار، مما يتسب في الاضطرابات والأزمات الاجتماعية، كما أن الاندفاع نحو خصخصة المرافق العامة، وإلغاء تقنين علاقات العمل، وتقليص شبكات الضمان الاجتماعي، كل ذلك أدى إلى تخلي الحكومات عن التزاماتها المتعلقة بالحوق الاقتصادية والاجتماعية لمصلحة السوق.
أما أسلوب الاستثمار المعتمد الذي لا يبدي اهتماماً بسلامة البيئة، وينسف مصالح القطاعات المحلية التي لا تستطيع المنافسة، والوقوف أمام الشركات الكبرى، أصبح يشكل عاملاً مضراً لحقوق الإنسان.
لهذا قالت إن تزايد الفقر، وتشدد الحكومات الاستبدادية سوف يؤدي إلى انعدام الاستقرار السياسي، مما يتسبب في انتشار العنف الاجتماعي، وبناءً عليه طالب مجموعة العشرين باحترام القيم العالمية، وأن تواجه هذه الدول سجلاتها الملطخة بالانتهاكات وازدواجية المعايير في مجال حقوق الإنسان، ولا بد من إيجاد قيادات تعمل لمصلحة الجميع وليس للأقلية ذات الامتيازات.
وختمت مقدمتها بتحذير لعالم عندما وصفته بأنه يجلس على برمل من البارود سرعان ما ينفجر إذا لم تتحقق المساواة، وتتأكد قيم العدالة، ويسود الأمن.
إن التطور في المجال الإستراتيجي سوف يجعل من منظمات حقوق الإنسان أداة هامة لإنقاذ البشرية من الأزمات التي تعصف بها.
والله الموفق
Email-eshki@doctor.com