تناولنا في مقال الأمس واقع القطاع الزراعي من زاوية دولية واسعة.. وسأحاول في مقال اليوم الحديث عن القطاع الزراعي من زاوية أقل انفراجاً، وهو القطاع الزراعي العربي، فالعرب اليوم في سباق النمو والتنمية لا بد وأن يدركوا أن القطاع الزراعي وكما أنه قاعدة القطاعات الاقتصادية الفرعية التي يمثلها التصنيع الغذائي فإنه بالمقابل يحرك مصادر قوة عالمية باتت تؤثر في التشريعات العالمية وحركة التصنيع والتقنية.. فالأحزاب الخضراء اليوم ترفع لافتات على تقاطع مباشر وغير مباشر بالقطاع الزراعي وقضاياه.
الحقائق الغائبة في العالم العربي دفعت الاهتمام بالقطاع الزراعي إلى التراجع على حساب الصناعة والتقنية.. وهذه الأخيرة لها من الأهمية الكثير.. ولا شك أنه لا يمكن التقليل من شأنها باعتبارها وقود النمو الاقتصادي الجديد.. لكن معادلة النمو والتنمية لا يمكن أن تستقيم دون قطاع زراعي يملك مقومات القدرة على تحقيق الأمن الغذائي بمفهومه الشامل ويؤمن الغذاء الصحي السليم وهو الأمر الذي لا يزال الوعي به إنتاجاً واستهلاكاً دون المأمول في الوطن العربي.
النظرة إلى القطاع الزراعي في عالمنا العربي لا بد أن تتجاوز العمليات الإنتاجية التقليدية ليتم تأسيسها على التطبيقات المؤسساتية التي تتعاطى مع القطاع بشكل أُفقي ورأسي يعزز النوعية ويراكم الخبرات بشكل علمي، ومن المؤلم حقاً أن يسير القطاع الزراعي العربي في إطار تقليدي ضيق وأهله من تربطهم بالأرض علاقة روحية عميقة.. فاليوم توجد في أوروبا قاعدة معرفية زراعية هي النواة الصلبة للقطاع.. فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك الشبكة الأوروبية للزراعة ومعاهد سياسة الأبحاث الريفية التي تُعد أحد نماذج التعميق البحثي للتجارب الأوروبية الزراعية واستثمار تراكمها ورسملتها على صعيد البحث والتطوير.. بينما لا تزال المؤسسات الزراعية العربية تمارس تجاربها دون مرجعية تطبيقية.
إن الحديث عن تحقيق الأمن الغذائي العربي يستلزم الوقوف بجدية مع الدول التي تملك مقومات الفرص الاستثمارية الزراعية وتوظيف مقدراتها لتقليص الفجوة الغذائية العربية.. فالمعطيات الاقتصادية تؤكد أن المنطقة تملك وفرة في الموارد.. لكنها تعاني من ثغرة حقيقية في توظيف تلك الموارد، فالسودان كبلد عربي يملك وحده من الموارد والمقومات ما يعالج الفجوة الغذائية العربية وأكثر.. ثمة وقائع لا يمكن القفز عليها لمعالجة الواقع الزراعي العربي، فردم الفجوة الزراعية التي تشير الإحصاءات إلى أنها تلامس سقف الـ 20 مليار دولار يتطلب منظومة أمن غذائي شامل تدعمها الإرادة السياسية القوية، الطريق إلى قطاع زراعي صلب ينبغي أن لا تقتصر السياسات الاقتصادية في رسمه في إطار قطاع اقتصادي، بل محور تنمية ونمو، فالقطاع الذي يحوي الأرض لا بد أن تتجذر علاقته بالتنمية من بوابة الإنسان كما استعرضنا في التجارب الدولية في الجزء الأول من هذا المقال والذي نُشر بالأمس.
تحقيق الأمن الغذائي العربي يرتبط بتطوير دوائر ومؤسسات تملك القدرة على تفعيل دور الطلب والعرض في السوق الزراعي لتشكيل مجال حيوي يمكن أن يستوعب فرص تطوير تقني محلي تملك القدرة على توسع القطاع بشكل كبير وتطوير المورد البشري النوعي داخل إطاره.
ثمة واقع صعب ينتظر إمدادات الغذاء في العالم يجب أن لا ندير ظهرنا له فثمة بيوت دراسات وأبحاث عالمية تدرس جانب العرض من الغذاء والتحديات التي تواجه العالم في المستقبل، صحيح أن بعض تلك النتائج التي تطرحها بعض مراكز الأبحاث تحمل مبالغة وسوداوية لا تنفك من ماضي المالتسية لكنها بالمقابل ترصد الاتجاه الذي يحمله المستقبل والذي بلغ ذروته في دعوة بعض الباحثين لتخزين جميع أنواع الحبوب في القطب الشمالي والجنوبي لحفظها من الفناء!
الحديث عن التحديات والصعوبات في رحم المستقبل يفتح الباب لتقييم الخطط والتوجهات والواقع أن المملكة العربية السعودية كجزء من العالم العربي تملك تجربة ثرية وحقيقية في تطوير قطاع زراعي ناضج بات اليوم قادراً ليس فقط على تنمية وتطوير تجربته المحلية بل والتقدم خطوات إلى الأمام في الاستثمار في الخارج.