كنت وما زلت أقول إن تاريخنا لم يُكتب بعد، هذه الحقيقة المُشكلة يجب ألا نمل ترديدها ما دامت قائمة، وما دامت مشكلة تبحث عن حل، تماماً كما المريض الذي يختلف إلى الطبيب من حين إلى حين، لا ينبغي له أن يمل حتى تبرأ أسقامه ويتماثل للشفاء، بعض مساجد الأحساء القديمة كتب عنها في الآونة الأخيرة، إلا إن سائرها لم يُكتب عنه بعد، من هذه المساجد المهملة التأريخ جامع المزروعية الكبير بالهفوف، ربما لأنه في الأصل لم يكن مسجداً أو جامعاً كما يُعرف اليوم، وإنما مُصلى تقام فيه صلوات العيدين والاستسقاء فحسب.
هذا المسجد كان في الأصل جُزءاً من عقار زراعي يُدعى (سَمحة) وهو واقع على ربوة ناهدة بالحافة الشرقية من العقار المذكور، ولكون أرض هذا الجزء منبسطة وغير مزروعة، ولوقوعها خارج أسوار المدينة، فقد نذرها مالكها الشيخ محمد الشلال بن إبراهيم آل ملحم لتكون مُصلى تؤدى فيه صلوات العيدين والاستسقاء، وحين قرر بيع (سَمحة) بعد ذلك قام بفرز أرض المُصلى لتغدو كما أراد لها أن تكون مُصلى للأهالي، تأريخ هذه الحادثة كان في زمن الدولة السعودية الثانية، حيث عاش ابن ملحم الذي كان واحداً من أبرز رجالات الإمام تركي بن عبدالله وولده الإمام فيصل بن تركي في الأحساء.. المسجد وكما تقول الرواية الشفهية المُسندة كان مُحاطاً بحجارة صغيرة أشبه بمفحص قطاة كما في الحديث، وقد حدّثني عدد من أحفاد الشيخ محمد بن ملحم ممن عُمِّروا وتجاوزوا الخامسة والتسعين والمائة عام من أعمارهم أنهم كانوا في طفولتهم يذهبون بصحبة آبائهم لإصلاح ما أفسدته مياه الأمطار، إذا ما انهمرت بغزارة وجرفت بعض حوافه وأطرافه، كانوا يحرصون على ذلك قربة إلى الله، وحتى يَظل صالحاً للغاية التي أُوجد من أجلها، وقد بقي المُصلى على تلك الهيئة عقوداً طويلة، حتى استُردت الأحساء إلى حوزة الدولة السعودية الثالثة في عام 1331هـ، وفي النصف الأول من القرن الماضي مرّ الأمير عبدالله بن جلوي ذات يوم على المُصلى المذكور، ومعه وزيره محمد بن عبد العزيز العجاجي فأشار الأخير عليه بإحاطة المصلى بسور ومحراب وأبواب، فاستحسن الأمير ذلك وأمر بإنفاذه، فبُني له جدار طيني بارتفاع المترين تقريباً، ثم فُرشت أرضه برملة نفود ناعمة، كما شيدت له خمس بوابات كبيرة بارتفاع أربعة أمتار تقريباً، إحداها كانت تفتح إلى الشمال وأخرى إلى الجنوب، وثلاث إلى ناحية الشرق، وقد بُنيت جميعها من الآجر والجص الأبيض، وزُين أعلاها وكذا المحراب بزخرفة ونقوش يسيرة، كتلك التي تُجمَّلُ بها واجهات البيوت والمزارع الكبيرة.
صورة المُصلى على تلك الهيئة لم تزل عالقة بذاكرتي مذ كنت غلاماً، وقتها كان المصلى مكشوفاً غير مسقوف، ومُشرع الأبواب التي ربما غمرت الرمال عرصاتها فحالت دون إغلاقها، وقد صَليتُ فيه عدة مرات ولهوت فيه مراراً مع لداتي من أطفال الحي، فيما كان الشبان الأكبر سناً يتخذونه ملعباً لكرة القدم، وهو مهمل لا يتخوله أحد بعناية أو اهتمام إلا قبيل صلوات العيد، وقد ظل على حاله تلك حتى امتد العمران إلى خارج المدينة القديمة وظهرت الأحياء الحديثة، التي أخذت تتمدد إلى الغرب وبكل اتجاه، حتى حاذته ثم تجاوزته ثم اكتنفته فصار داخلها! (سَمحة) المزرعة آلت فيما بعد إلى أسرة آل حسين، وكانت من أجمل مزارع تلك الناحية، ولما زارها فيدريكو فيدال في عام 1952م كتب عنها في كتابه الجغرافي (واحة الأحساء) وأشاد بحسن بناء قصرها، غير أنها وبعد وقت قصير فقدت هويتها الزراعية، بعد أن عُضل شجرها واقتُلع نخلها لتكون حياً سكنياً حديثاً، فيما ظل المُصلى على حاله تلك، حتى ارتأت إدارة المساجد والأوقاف هدمه وإعادة بنائه في عام 1405هـ تقريباً، ليكون مسجداً تُقام فيه جميع الصلوات، ومن هنا فقدَ مسماه القديم حيث كان يُدعى (مسجد العيد) واكتسب مسماه الجديد ليغدو (جامع المزروعية) وقد كان قضاة الأحساء المعاصرون لتجديده الأول يؤمون الناس به في العيدين، كالشيخ صالح بن غصون والشيخ عبد العزيز اليحيى وغيرهما، أما بعد تجديده الثاني وإدامته لجميع الصلوات فقد أمّ المصلين به صاحب الصوت الشجي الشيخ محمد بن إبراهيم النعيم، وقد كانت إمامته محصورة في الصلوات الخمس، فيما كان الشيخ عبد اللطيف بن محمد النعيم يؤم المصلين في الجُمَع، وبعد مغادرة الأول إلى جمهورية مصر العربية للدراسة العليا، وانتقال الثاني إلى الرفيق الأعلى خلفهما على إمامته ابن عمهما الشيخ عبد المحسن النعيم ولا يزال، كما أن مؤذنيه الأول والثاني إبراهيم وماجد كليهما من أسرة الفرج، وهما من حسني الأصوات الذين يُذكرون بمؤذني المسجد الحرام.
قطعاً ليس هذا كل شيء.. ولكن حسبي أن قصة ذلك المسجد رواية لم تُحكَ من قبل فلم أرد لها أن تموت بموت رواتها.
عبدالله آل ملحم
almol7em@hotmail.com