في عام 1360 هـ - أي قبل 70 عاماً - خرج صاحب الجلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود ملك المملكة العربية السعودية بموكبه وجنوده من عاصمة المملكة الرياض وسار يريد مقاطعة القصيم، وكان في صحبته نجله وولي عهده سعود وبقية الأنجال، وقبل سيره أصلحت الطريق الرملية لسياراته وقد سبقه الفراشون والخدم ينصبون الخيام في الموضع الكائن في بريدة المعروف بالتغيرة يبعد عن البلد بقدر كيلو ونصف الكيلومتر، فقدمها في موكبه العظيم يحيط به نظام عسكري، وهذا لأول مرة يقدم عاصمة القصيم بريدة بالنظام العسكري، وأضيء مخيمه الزاهي بالكهرباء فاستقبله الأهالي استقبالاً عظيماً على حسب ما لديهم من الاستقبال والإمكانيات، يشير إبراهيم بن عبيد في كتابه (تذكرة أولى النهى والعرفان للزيارة قائلاً: هرعت الأمة للسلام على جلالة الملك عبد العزيز والترحيب بقدومه, وكنتُ فيمن قدم عليه بجملة من التلاميذ وطلاب العلم، فقام لأداء السلام كعادته في التواضع، وبعدما أديرت القهوة العربية أخذ يتكلم ويلقي علينا من جواهره فقال: يا أخواني سبحان من يغير ولا يتغير، وإن الدنيا ما لها إلا الفناء والزوال، ويكفينا عبرةً سكان هذا البقاع الخاوية - ويشير إلى جهة الغرب يريد الشماس الموضع المعروف (حي قديم من أحياء بريدة) الذي كان موضع سكني في الأزمنة الغابرة - يا إخواني كأنه لم يُسكن، إخواني: إن العزة في طاعة الله تعالى، أما الدنيا فإنها تمضي على ما كانت حلاوة ومرارة، ونحن لا نخشى من الناس وإنما نخشى من أنفسنا، إن الله لا يغير بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وهذه الدنيا وإن حذرنا منها فكلنا لا ننتهي من الركون إليها كما قيل (الدنيا دواهي وكل عنها ناهي وهو غير متناهي) انتهى، ويضيف الشيخ ابن عبيد قائلاً: أقام في بريدة أياماً ثم ارتحل منها وخلف ضيافة في بريدة بمرتب عشرة أكياس أرز وأربع صفائح سمن وبعير كل يوم، فأصبح فقراء أهل القصيم يترددون إلى الضيافة كل يوم، منهم المتناول بيده والحامل بآنيته، ونفع الله الفقراء بهذا المضيف، وقد فرق نقوداً كثيرة.
ثم إنها عُطّلتْ السكة الأولى المتعامل بها وهي الريال الفرنسي وأبدلت بالريال العربي، وجعل لذلك بنك يقبض ويبدل وكان الريال العربي بقدر خمسي الريال الفرنسي، وله نصف وربع كلها من الفضة، أما القرش فكان من النيكل.
وفي عام 1366هـ أي بعد ست سنوات من الزيارة الأولى أمر الملك عبد العزيز بتأسيس مطار في مدينة بريدة (موقع المطار في حي بوسط بريدة) وكان ذلك غرة ربيع الأول، ولما كان بعد شهر أي في غرة ربيع الثاني شحنة السيارات النقلية بالأرزاق والأطعمة وقامت من الحجاز والرياض متماسكة إلى بريدة عاصمة القصيم، واستمرت في النقل من غرة الشهر إلى 15 منه حتى بلغ عدة ما ورد من الأرز والدقيق والسكر واللبن والشاي والهيل قريباً من ستين ألف كيس، ولا يعلم أحد حقيقة الأمر، غير أن تلك الأرزاق وما يتبعها من المعدات الحربية التي قدمت بعد ذلك من الجنود تنبئ بأمر مهم شخصت الأبصار لها وقامت العاصمة تستعد باحتفالاتها لقدوم الملك ولما أن كان في 12 من الشهر قدمت الدبابات والمصفحات ونصب على كثب الرمل الحمراء في الموضع المسمى التغيرة ما يقرب من ألفي خيمة، وامتد بناء الخيام حتى بلغت مساحة الأرض التي نصبت فيها مع الخيام الأخرى التي نصبت بعد ذلك ما يزيد على تسعمائة ألف متر مربع, ثم قدمت السيارات النقلية وسيارات الركوب بعد ذلك، ولما كان في صباح 17 ربيع الثاني خرج أهالي القصيم إلى المطار للاستقبال، ففي تمام الساعة الثانية عربية صباحاً أقلت الطائرات عاهل الجزيرة العربية من الرياض وعدتها ثماني طائرات من بينها الطائرة الخاصة الملكية بصحبة أنجاله والحرس الخاص، ثم أنها هبطت الطائرة في الثالثة تزيد خمس عشرة دقيقة، ولما هبطت الطائرات في القصيم كانت ساعة مشهودة استعد فيها أهالي القصيم باحتفالهم البديع فملؤوا الصحاري، وجلس صاحب الجلالة في موضع الاستقبال حتى قرت العيون بالسلام عليه ورؤيته، ثم إنه سار إلى موضعه في المخيم.
ويصف الشيخ ابن عبيد استعداد أهل القصيم لاستقبال مليكهم قائلاً: إن أهل القصيم والحق يقال كانوا رجالاً أهل دين وسمت، وفيهم نخوة عربية دينية، فلذلك كان صاحب الجلالة عبد العزيز بن سعود يختصهم بالثقة والحشمة والشيمة، أضف إلى ذلك أن لهم سوابق في الشجاعة والتقدم، وطالما صفوا تحت راية ابن سعود وجاهدوا عدوه، فهم يتمسكون بشرفهم ويخدمون مليكهم، ويتعدون من الشقاق ولو أدى ذلك اجتثاث أصلهم، فما أقواهم في الدين، وما أشجعهم في اللقاء، وكلا الخصلتين محمودتان عند الله وأطائب خلقه، فلقد قاموا بقيادة أمير بريدة باستعراض أمام جلالة الملك يهزجون بالأناشيد ويضربون الدفوف ليلة 18 ربيع الأول، ثم لما كان من الصباح تأهبوا مستبسلين وكل شخص استعد بسيفه أو بندقيته، فكانوا صفين أمام قصر الحكم في بريدة، وبعدما استكمل عددهم مشوا من ذلك الموضع ووقفوا صفين في بطن الخبيب (شارع عريق في بريدة) بطول أربعة كيلومترات، فقامت الدفوف لها لجبة عظيمة يسمع قرعها من مسافة بعيدة، وقامت فرقة السلاح الأبيض تتمايل خلف العلم السعودي، وقامت كعاب البنادق يسمع لها قعقعة، واستمر الاستعراض ست ساعات من الزمن، ثم أطلقت البنادق في الفضاء، هذا وصاحب الجلالة الملك المعظم يشاهد ذلك، ثم أنه أكمل الاستعراض، ولما أن كان من الغد أعيد الاستعراض للمرة الثانية, وقامت فرق المتطوعين تعرض على صاحب الجلالة وقد استبسل أهالي القصيم وفدوا إمامهم الملك العظيم والقائد المحنك بما عز عليهم من الأنفس والأموال وأنهم يسيرون تحت رايته الخفاقة، ولو خاض بهم البحر الخضم، ولو أمامهم النار لوقعوا فيها.
أولئك رجال القصيم الذين فضلهم لا ينكر، يشهد لهم بالتقدم في المعارك والفتوحات الإسلامية التاريخ والوقعات التي دوخت كل مكايد تقف أمام جلالة الملك ابن سعود، أو يريد الإسلام بسوء، ثم إنها أطلقت البنادق في الفضاء، وانتهى الاستعراض في الساعة السادسة نهاراً تزيد ثلاثين دقيقة.
وكان عدد الذين شهدوا الاستعراض واشتركوا فيه من أهل القصيم ستين ألف مقاتل من الرجال الشجعان.
ولقد أُعجب الملك بهذه الشجاعة وسره ما أبداه الأهالي من التحمس والتقدم، فيا له من استعراض يذيب القلوب ويشحذ الهمم, ويثير السواكن، ثم أنه نقل المطار إلى موضع العودة الذي لا يزيد مسافته عن البلد بكيلوين.
وكان المركب عظيماً طنبت فيه خيام ابن سعود، وصفت السيارات والمدرعات والمصفحات والمدافع والرشاشات والمكائن النارية، ومدت أسلاك الكهرباء المنيرة موزعاً على ذلك الموضع، ونظمت العساكر والجنود ونصبت القدور وجلبت الأدباش.
وبالرغم من وجود صاحب الجلالة الملك المعظّم فإن الفواكه قد بلغت غاية في الغلاء، حتى بلغ وزن الطماطا أربعة عشر ريالاً، وانتهت قيمة الحطب إلى قدر عظيم في الغلاء حتى بيع الحطب الذي يقدر بحمل بعير بثلاثين ريالاً بعد أن كانت القيمة أربعة ريالات، ولولا ما اتخذته مديرية مالية بريدة من جلب الأسباب قبل ذلك في شحن السيارات والسعي في نيله لكان الأمر أعجب وكان يأتي إلى ذلك المخيم يومياً أربع مائة حمل من الحطب، وقد بلغت قيمة الحطب الذي استهلكه المخيم العظيم مائتي ألف وثلاثين ألف ريال في شهر واحد, وبما أن الفواكه ترد من مصر والشام وغيرها عن طريق الطائرات يومياً فإنها لا تزال في الغلاء، أما بقية الأسعار فإنها تحسنت قيمتها.
ثم إنه قسّم الملك ابن سعود على أهل بريدة ألف كيس من البر والدقيق، ومائة وخمسين ألفاً من النقود، وعلى بقية قرى القصيم مائة ألف من النقود، هذا الذي كان في الظاهر، وأما ما كان سراً فإنه لا يحصى، ولما كان في 29- 4 سار على سبعين من السيارات لزيارة عنيزة بصحبة بعض أنجاله، فأقام فيها يوماً واحداً ورجع آخر النهار، وفي يوم الاثنين الموافق 2 جمادي الأولى سافر إلى بلاد حائل على ظهر ثلاث طائرات، وقد سار أمامه بعض النقليات والمصفحات إليها فقدمها وأقام فيها يومين، ثم إنه رجع مسروراً وقد خرج الأهالي من بريدة لاستقباله في المطار لما رجع إليها، ولما نزل من الطائرة الملكية وقف للناس وهم يزدحمون للسلام عليه ويبتسم عجباً من محبتهم له، ثم إنه أقام في بريدة إلى 17 جمادي الأولى الموافق ليوم الثلاثاء، ولقد سر سروراً بشجاعة أهل القصيم، وما يكنون في أنفسهم من النصح له والمحبة، وزاد إعجابه بهم.
وعندما عزم جلالته على الرحيل إلى الرياض في 17-5 تحرك الموكب من بريدة للسفر إلى الرياض فقوضت الخيام، وجمعت السيارات، وتأهبت الجنود للسير، وقد كان في ليلة 16 من الشهر أن سار بعض النساء من البيت الملكي على بعض الطائرات، ولما أن كان في يومها طار أربع طائرات تقل بقية الأميرات وخدمهن، ثم سارت النقليات في ذلك اليوم، وبات الموكب على أهبة الرحيل، وفي صباح اليوم 17 الموافق الثلاثاء طارت طائرتان بما بقي من الأسرة وخرجت الأمة تتقدمها الأعيان والرؤساء لوداع جلالته، فجلسوا أمامه على تلك الكراسي الجميلة في ذلك السرادق العظيم وجعل يلقي على الأرض عليهم من كلامه ما هو أحلى من الشهد، بحيث سر ضمائرهم وأطلق ألسنتهم بالثناء والشكر له, ومن كلامه - رحمه الله قوله -: (إن الأمر في الحقيقة يرجع إلى النية والقلب، فإن كان قلبك ينكر المنكر ويكرهه ويقشعر عند ما يسخط الله فذلك عنوان الخير، وإن كان قلبك يميل مع كل شيء فلست بشيء، إني قلت لرئيس من رؤساء الكفر نحن -أيها المسلمون- خير منكم فأجاب يستفهم عن ذلك، فقلت له : لو أننا سمعنا أحداً يسب نبينا قتلناه وإنكم تسمعون اليهود تشتم عيسى وتقذف مريم ولا تغارون لذلك، إني لما قدمت مصر أذّنت وصليت بمن معي، فتَعجَبْ أهل مصر من ذلك يقولون هذا الملك ابن سعود يؤذن، فقلت نعم إني أؤذن وأشهد أن لا إله إلا الله، وكانت عمتي غفر الله لها تقول: الله يا عبد العزيز، إنك أذنت فقلت لها نعم والحمد لله)، فأجابه احد العلماء الحاضرين على الفور بقوله هذه عمرية يا طويل العمر، ثم أنه أخذ يذم طريقة الكفر ونحل الكفار وما هم عليه من سفالة الأخلاق ورذالة الأمور مستهجناً لهم ومحذراً من سلوك طرائقهم، لأنهم كانوا على غير هدى، وحقاً فإنهم كانوا عن سبيل الله معرضين، وللشيطان متبعين، وعن الفضائح متجردين, ومضى قائلاً: (أن الرئيس روزفلت قد كان حسن المعاملة معه، وقال : إنه وعدني مكائن وقوات، غير أن الله لم يتم ذلك بل هلك الرئيس قبل أن ينفذ إرادته).
ثم تكلم عن الطائرات وصيانتها، وأن فيها توفيراً وراحة، وأنه يريد أن يجعل شركة فيها، وقال: (لو شئنا لأتينا بمائة طائرة، وإنما نأتي بما تدعو الحاجة إليه).
وبعد ذلك قام واقفاً وودع الحاضرين وهم يبكون لفراقه، وأعرب عما في ضميره وبما يكنه لهم من المحبة يقبّلون يده وجبينه، ثم سار بعد ذلك بالسيارات إلى المطار وقد هيئ له أربع طائرات أقلته إلى الرياض.
سليمان بن صالح العجلان
بريدة - المويه - فاكس : 063281249