حين غرس والدي يده في طين الأرض لأول مرة لم ألحظ عليه سوى الفخر بأديمها والإيمان بعطائها رغم دعوة الكثيرين له بتنظيف يده مما علق بها من الأرض.. كان وما يزال يحفظه الله مؤمناً بأن الأرض ليست مجرد عنصر إنتاج بل عمق إنتاجي متجذر.. حين بدأت بذور رؤيته للعلاقة مع الأرض من خلال المشروعات الزراعية كانت كل المعطيات التي يؤمن بها من حوله تقول بأن الاقتصاد الجديد يترك الزراعة والمزارعين خلف ظهره وأن ثقافة الاستثمار الجديدة لا تؤمن بالتراب.. يومها كان الكثيرون من اقتصاديي التنظير يدعون المملكة إلى التخلي عن الزراعة بسوق ألف سبب وسبب، ومع ذلك لم تستمع قيادة المملكة لتلك الأصوات ووجهت بوصلتها إلى اتجاه إنشاء قطاع اقتصادي حقيقي أستطيع تسميته اليوم بكل فخر (القطاع الزراعي السعودي) رغم أن المملكة تسبح في بحر من النفط الذي أنعم الله به على هذه البلاد، إلا أن قليلين يدركون أن القطاع الزراعي كان نواة التأسيس الاقتصادية حين اختاره المؤسس بذرة التوطين في البلاد. ثم تطورت علاقة القطاع بالاقتصاد الوطني ليصبح أحد محركات الإنتاج الحقيقية لتغطية حاجة المملكة من الغذاء، لكن الرؤية الإستراتيجية لهذا القطاع ومنذ زمن مبكر دفعت الحكومة إلى الاتجاه بدعم قطاع زراعي خاص يساهم في توسيع الزراعة وفق القواعد الاقتصادية الصحيحة ولم تبخل القيادة الرشيدة في دعم هذا القطاع وتنميته ولن أجد دليلا أكثر قرباً مني من استثمارات والدي سليمان بن عبدالعزيز ألراجحي الذي ما كان لها أن تنمو وتنضج لولا هذا الدعم الحكومي النوعي والكمي المتواصل.
وكل مطلع على واقع الدعم الحكومي لا يملك سوى الاعتراف بدوره الذي يجعل مع كل بذرة تزرع وتسقى بالماء رصيداً من التجربة والإصرار في العلاقة مع الأرض واليقين بأهلها.
قبل أن أتحدث عن مسيرة التطور النوعي في القطاع الزراعي السعودي والذي سأستعرضه في ثلاث مقالات هذا أولها لابد أن أحيط القارئ الكريم برؤية تاريخية ومستجدات أولية كثيرة طرأت على النظرة للقطاع الزراعي في التجارب العالمية، وقد لا يتسع المقال لتقصي جميع أسبابها وأبعادها فبعضها مما له علاقة بالاقتصاد بشكل مباشر كنظرية الاقتصادي مالتس التي حجمت من قدرة القطاع الزراعي على مواجهة تناسل البشر فتبعها نظرة مراجعة لآليات القطاع الإنتاجية وتكثيفها لتطوير الميكنة لتحقيق الإنتاج الوفير الذي يلبي الحذر من مخاطر وسلبيات الافتراضات المتشائمة، ومستجدات أخرى لها علاقة بقضايا اجتماعية ونفسية دفعت بعض الاقتصاديين في خضم النشوة بالثورة الصناعية إلى اتهام الزراعة بأنها أحد أسباب شقاء الإنسان في ربط بين معدل زيادة الدخل الذي أفرزته الثورة وسعادة المجتمع البريطاني، غير أن كل تلك الدراسات والنشوة التقنية لم تمنع الملف الزراعي وحتى اليوم أن يكون المسيطر على جميع أجندات التفاوض الأمريكية والأوروبية مع الدول الأقل نمواً في آسيا وإفريقيا وأمريكيا الجنوبية، وليس أدل على ذلك من تعثر جولة الدوحة في منظمة التجارة العالمية بسبب هذا الملف.
الحقيقة الغائبة في العالم العربي أن القطاع الزراعي لا يتلاشى ويتحجم تأثيره في العالم والاقتصاديات المتقدمة، بل على العكس حيث يتعاظم وتزداد أهميته، فالاقتصاد الأمريكي اليوم والذي بات نصف ناتجة القومي يأتي من شركات لم تكن موجودة قبل 20 عاماً من الآن يملك من تشعبات القطاع الزراعي في نسيجه الاجتماعي والمؤسساتي تأثيراً كبيراً يجعل الحزبين الأمريكيين الجمهوري والديمقراطي يضعانه في قلب سياساتهما، وحال آسيا ليس ببعيد عن ذلك، فالكوريون الذين يملكون تجربة تصنيع جديدة لم تطفئ بعد جذوتها ما يزال المزارعون فيها رقماً صعباً في أجندات تفاوض السياسيين وتشابك علاقاتهم التجارية الدولية، وقد بلغت رسائلهم المجتمعين في هونج كونج حين كان وزراء التجارة يلملمون ملفات منظمة التجارة العاثرة في مؤتمرها الوزاري السادس. ورغم الحديث المتواصل عن موجات تطور في القطاعات الاقتصادية تضع بعض القطاعات في مؤخرة عربة النمو الاقتصادي في التأثير الكلي على الاقتصاد ورغم الغموض المحيط بالتفسير الاقتصادي العميق للثورة الصناعية وبذورها والذي ما يزال لغزاً محيراً لمحللي التاريخ الاقتصادي والذين أصروا على آن مقدماتها لم تكن متوقعه فأنهم اجمعوا على حقيقة أن المستوى والمكاسب التي حققها الاقتصاد العالمي قامت وترسخت على أكتاف القطاع الزراعي الذي يشهد تحولاً نوعياً في كل عصر ومرحلة.