سيظل العالم الإسلامي، وأغلبية من العرب بمسلميهم ومسيحييهم.. يعيشون حالة من (النشوة) الغامرة.. ربما تمتد بهم لشهور بعد خطاب الرئيس باراك أوباما المدوي، الذي ألقاه بقاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة.. ورأته واستمعت إليه وقرأته المعمورة كلها،..
وهي تكاد لا تصدق أن محدثها هو الرئيس الأمريكي الرابع والأربعون.. بعد أن كشف في ختامه عن صورة العالم الجديد الذي يسعى إليه: عالم.. (لا يهدد فيه المتطرفون شعوبنا)، عالم.. (عادت فيه القوات الأمريكية إلى بلدها)، عالم.. (حيث الإسرائيليين والفلسطينيين يعيشون في أمان كلٌ في دولته)، عالم.. (حيث تستخدم الطاقة النووية - فيه - لأغراض سلمية)، عالم.. (حيث الحكومات تحترم مواطنيها وتحترم حقوق الجميع)..
لقد كان الخطاب عظيماً في مجمله ومفرداته.. إذا تجاوزنا عن خلطه بين الحروب الصليبية التي قادتها أوروبا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي ضد المشرق الإسلامي ودوله.. كسبب رئيسي للتوتر التاريخي بين الغرب والإسلام، ولم نتوقف طويلاً.. عند اختياره لليوم (الرابع) من شهر يونيه- حزيران (موعداً) لخطابه.. وهو الذي يوافق عشية الذكرى الثانية والأربعين لحرب الأيام الستة، التي لعبت فيها الولايات المتحدة الأمريكية أهم وأخطر الأدوار في سحق مصر وتوجهاتها القومية آنذاك، وقبلنا بأنه توقيت (عفوي).. يتفق وأجندة الرئيس أوباما التي يفترض ازدحامها خاصة في شهورها الأولى، فإننا لابد وأن نقول برويّة.. إن العظمة الحقيقية في خطابه، ليست في طوله الذي امتد لساعة من الزمن، وليست في لغته وبلاغته التي بالتأكيد ذكَّرت الأمريكيين - على وجه الخصوص - بلغة سلفه الرئيس دبليو بوش (الابن).. التي كانت تمثل بضعفها وتكسُّرها (منجماً) لرسامي الكاريكاتير الأمريكيين، يغرفون منه ما يشاءون.. ليضحكوا، ويُضحكوا العالم معهم (سخرية) بلغة الرئيس.
كما أنها.. لم تكن في (ارتجاله) غير المصدق، الذي لم يُدهش كثيراً من المسلمين الحديث عنه والتركيز عليه.. بل واستمات البعض منهم في الدفاع عنه!! ولا في اعترافه للإسلام.. بدوره في نهضة و(تنوير) أوروبا في قرون تخلفها الماضية.. الذي مازال يلهث بعض المسلمين في (الفوز) به، بل ولم تكن في استشهاداته القرآنية الخمس أو الست.. التي كان واضحاً هدفها المباشر في دغدغة مشاعر المسلمين والعرب بأحلى ما يحبون الاستماع إليه، كما أن عظمة الخطاب.. لم تكن في تسلسل استعراضه المحكم لبؤر التوتر والنزاع الحالية مع العالم الإسلامي في كل من (أفغانستان) المسحوقة بترسانتي الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، و(العراق) المنهوب نفطاً والمحتل أرضاً وإرادة.. أو في حديثه عن الانسحاب المشروط منهما (إذا وثقنا بأنه لن يكون هناك متطرفون في أفغانستان وباكستان عاقدون العزم على قتل أكبر عدد من الأمريكيين حسب استطاعتهم).. أما من العراق، فإن (أمريكا لديها مسؤولية مضاعفة.. وهي مساعدة العراق على صياغة مستقبل أفضل.. وأن نترك العراق للعراقيين).
إن العظمة الحقيقية في خطاب الرئيس أوباما.. إنما تكمن في تلك الدقائق العشر أو في المائة والعشرين سطراً التي تحدث فيها عن معاناة الفلسطينيين (مسلمين ومسيحيين) في سبيل إقامة وطن لهم.. ف(لأكثر من ستين عاماً تحملوا ألم التشرد، وانتظر الكثيرون في معسكرات لاجئين في الضفة الغربية وغزة والأراضي المجاورة.. بحثاً عن حياة سلمية آمنة لم يشهدوها. إنهم يتحملون الإذلال اليومي المصاحب للاحتلال. لذا فليس هناك مجال للشك في أن الوضع بالنسبة للشعب الفلسطيني لا يحتمل، وأن أمريكا لن تدير ظهرها لتطلع الفلسطينيين المشروع للحصول على الكرامة وإقامة دولتهم المستقلة)..!!
***
إن لغة منصفة غير مألوفة كهذه.. لم تكن لتخرج من البيت الأبيض وساكنه حتى في أفضل سنوات الاعتدال الأمريكي.. تجاه العرب - بمسلميهم ومسيحييهم.. كما يحب الرئيس أوباما - أيام رئاسات كينيدي، وكارتر، وكلينتون.. الديمقراطية، أما أيام الرئاسات الجمهورية من (نيكسون) إلى (ريجان) إلى (بوش) الأول.. ف(بوش) الثاني، فقد كان البيت الأبيض وساكنوه يعانون وعلى الدوام (صمماً) خِلقياً و(عمىً) عنيداً في الألوان، لا يجعلهم يفرقون بين اللون (الأحمر) الذي تريقه إسرائيل من دماء الفلسطينيين - مسلمين ومسيحيين - بطائرات ال (F 15 )وال (F 16) الأمريكية.. وبين اللون (الأزرق) الذي واصل (الفلسطينيون) كتابة استرحاماتهم عليه من أجل الحصول على قطعة من أرض وطنهم المسلوب ليقيموا عليها دولتهم.. منذ مدريد 1991م إلى أنابلوس 2007م، دون أن يجدوا يداً تمتد إليهم من البيت الأبيض ل(استلامها).. وأقصى ما سمعوه من الرئاسات الجمهورية في السبعينيات قولهم على لسان هنري كيسنجر: إن (ما فات مات)، ف(لا تحدثونا عن التاريخ.. وحدثونا عن الحاضر وعن الواقع المعاش)، وكان آخر أسوأ ما رآه وسمعه العرب - المسلمون والمسيحيون منهم.. كما يحب الرئيس أوباما -، هو تلك اللقاءات الحميمة التي كان يعقدها (بوش) الابن مع (شارون) (بطل) مذبحة (صبرا وشاتيلا) في ثمانينات القرن الماضي، و(قاتل) سلام أوسلو بدخوله وزمرته ل(المسجد الأقصى) عام 200م، و(مدمر) مدينة (جنين) الفلسطينية وما ومن عليها عام 2004م.. وهو يستغرق في مصافحته وكأنه يريد أن يحتضنه أو يقبله، ليلتفت إلى كاميرات التلفزيون وهو يشد على يد شارون.. مبدياً تعاسته وأسفه.. لأن (رجل السلام) هذا لا يجد رجل سلام في الجانب الفلسطيني المقابل، ليجري معه محادثات الوضع النهائي حول الحدود والقدس والمستوطنات وحق العودة للاجئين.. في الوقت الذي كان ينتظر فيه الرئيس الفلسطيني المنتخب عرفات على باب البيت الأبيض.. لحظة استدعائه، دون أن يسمح له بالدخول.. لأن بوش الابن قرر بعد الحادي عشر من سبتمبر بأنه لن يلتقي ب(الإرهابيين).. فضلاً عن زعمائهم، و(عرفات) هو أحدهم..!! وأن على القيادة الفلسطينية أن تغير من شخص زعيمها، وصدّق الفلسطينيون - بكل أسف - هذا الطرح الجنوني.. ليدفعوا ب(الرئيس محمود عباس)، فما كان حظه عند بوش الابن.. بأفضل من حظ سلفه عرفات الذي مات - فيما بعد - قهراً وكمداً.. قبل أن يموت حصاراً وإذلالاً.
***
إن اتكاء الرئيس أوباما في خطابه.. على ما أسماه ب(العداء) التاريخي بين (الإسلام) و(أمريكا) الذي أوصل العلاقات بينهما إلى ما وصلت إليه الآن من الشكوك والريبة والبغضاء، والذي جاء به إلى القاهرة ل(طي) صفحته.. ساعياً (نحو بداية جديدة بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم).. ليس صحيحاً، بل هي (مغالطة تاريخية).. مقصودة دون شك!! فلم يكن هناك عداء البتة بين الإسلام وأمريكا.. إذا استبعدنا الحروب الصليبية الأوروبية التي لم تكن ل(الولايات المتحدة) ناقة فيها ولا جمل.. بل كان هناك تناغم وانسجام بين الإسلام ودوله و(أمريكا) منذ أواخر القرن التاسع عشر.. وإلى أربعينيات القرن العشرين عندما برزت الولايات المتحدة ك(داعمة) كبرى للهجرة الصهيونية إلى فلسطين، ومشرعنة أعظم لاغتصابها بالمال والرجال والدعم السياسي والعسكري غير المحدود.. إلى قيام دولة إسرائيل، وما بعدها. أما العداء التاريخي.. فقد كان مع الإمبراطورية البريطانية وحليفتها فرنسا اللتين استعمرتا العالم العربي كله باستثناء الأجزاء التي لم تكونا بحاجة إليها، ومع نكبة الاغتصاب ظل هناك أمل عند العرب - بمسلميهم ومسيحييهم.. كما يحب الرئيس أوباما - في أن تعينهم الولايات المتحدة بعد خروجها منتصرة في الحرب العالمية الثانية.. على الخلاص من الاستعمارين البريطاني والفرنسي، فلم تفعل شيئاً على أرض الواقع.. غير ما يقتضيه دور (الوريث) من مواقف ومجاملات لا تكلفها شيئاً بقدر ما تقربها من الإرث البريطاني والفرنسي الذي كانت تعد نفسها له، ولذلك.. لم ينته الوجود البريطاني الفرنسي من الدول العربية - المسلمة بأكثريتها والمسيحية بأقليتها - حقيقة إلا بعد معركة السويس الخالدة، التي أطاحت بالوجودين البريطاني والفرنسي.. لتتحرر مصر فالمغرب، وتونس فالجزائر.. فالعراق فليبيا.. إلى اليمن الجنوبي.. فدول الخليج التي شهدت في مطلع السبعينات الميلادية من القرن الماضي نزول آخر علم بريطاني فوق شطآنها.
ف(العداء) تاريخياً لم يكن بين (أمريكا) و(الإسلام) كما يريد الرئيس أوباما أن يلوي عنق الحقيقة.. ولكنه كان ومايزال بين العرب - بمسلميهم ومسيحييهم - والولايات المتحدة الأمريكية بسبب دعمها السابق ل (الاغتصاب)، ودعمها الفادح اللحق وللاحتلال الإسرائيلي للقدس والضفة الغربية وغزة إلى جانب الجولان السورية وشبعا اللبنانية.. أما الإسلام.. فقد كان على وفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية حتى قيام الثورة الإسلامية الإيرانية وما تلاها من رفض أمريكي لها، ومع ذلك ظل الإسلام والمسلمون في داخل الولايات الأمريكية كلها.. يتمتعون بكامل حريتهم وحقوقهم.. محاطين بكثير من المحبة والتقدير، إنني مازلت أذكر مشاهد المبتعثين السعوديين الذين التقيت بعضهم في أوائل الثمانينات من القرن الماضي.. مع زميل الرحلة إليها الصديق الدكتور فهد العرابي الحارثي - رئيس تحرير مجلة اليمامة آنذاك -، فقد كانوا في غربتهم أكثر إسلاماً وتعاطفاً وتراحماً.. منهم في وطنهم ومدنهم وقراهم، لقد عبَّر هذا التوافق الإسلامي الأمريكي.. عن نفسه وبصورة جلية عندما تلاقي (الأمريكيون) بدعمهم المادي والعسكري والسياسي، و(المسلمون الأفغان) بسواعدهم وأرواحهم ودمائهم.. تحت راية (الإيمان بالله) لدفع قوى (الإلحاد الشيوعية) السوفييتية عن أفغانستان، وإلى أن زال الاحتلال السوفييتي عنها.. بل وسقط الاتحاد السوفييتي بكليته بعدها في مطلع التسعينات، لتستدير الولايات المتحدة الأمريكية.. وقد أصبحت وحدها: القوة العظمى.. على فصائل من أولئك المسلمين الأفغان - وقد كان بينهم كثير من العرب المؤمنين - بحجة الاختلاف معهم.. بطائراتها وغاراتها ليس عليهم في أفغانستان وحدها.. بل وعلى امتداداتهم في الصومال.. والسودان.
إن عمر العداء الأمريكي مع الإسلام.. لم يزد عن تسعة وثلاثين عاماً، إلا أن تراكماته خلالها، التي ألهبها - من بعد - مجيء الرئيس الغرِّير بوش الابن.. كانت متفجرة إلى أبعد الحدود لتظهر في أعنف صورها فوق برجي التجارة العالمي بمدينة (نيويورك) في الحادي عشر من سبتمبر، على أن حجر الأساس لهذه التراكمات.. بقي على حاله، متمثلاً في اغتصاب فلسطين لصالح الصهاينة.. لصالح إسرائيل، وتشريد أهلها، والاستيلاء على ممتلكاتهم.. وتحويلهم إلى تائهين في شتات الأرض، محرومون حتى من حقهم في التعويض.. فضلاً عن حقهم في العودة، وهو ما أفرد له الرئيس باراك أوباما بشجاعة الإنصاف، وعقلانية العدل، وحرقة اقتسام القهر (التاريخي) الذي عانى منه (السود) بقدر ما عانى منه الفلسطينيون.. تلك العشر دقائق أو المائة والعشرين سطراً من خطابه، حيث قال فيها عن (مظلمة) الفلسطينيين.. ما لم يقله أحد قط من قبل.. من الرؤساء الأمريكيين طوال الرئاسات الأمريكية الاثنى عشر السابقة: من فرانكلين روزفلت إلى بوش الابن..!؟
ولذلك ورغم التوازنات السياسية التي استعان بها الرئيس أوباما.. لتمرير وتبرير النقاط الحساسة من خطابه، فإن عظمة التجديد فيه وفي رؤاه.. ستظل مرتبطة ب (جسامة) المخاوف على حياة الرئيس..!
***
صحيح، إن (أوباما) ليس (سبارتاكوس).. زعيم تحرير العبيد قبل الميلاد.. الذي قتله (كراسوس) الزعيم الإيطالي الأبيض بعد عام من ثورته، ولكنه ليس بعيداً عن (مارتن لوثر كنج) زعيم حركة المقاومة السوداء ضد التمييز العنصري في ستينات القرن الماضي.. الذي اختار ك(غاندي) مبدأ اللاعنف في مقاومته.. ومع ذلك اغتاله عنصري أمريكي أبيض..! فهو يدعو إلى سلام عادل للفلسطينيين.. صعب على إسرائيل التي أفسدها طول عهدها ب (التدليل) الأمريكي، على أن المرجو أن لا يعتقد الفلسطينيون بأن (الكرة) أصبحت في الملعب الإسرائيلي وحده.. بل هي أيضاً في الملعب الفلسطيني المضحك في تناحره وحتى هذه اللحظة على (سلطة).. لمّا تتحقق لأي من طرفي الصراع (الفتحاوي) أو (الحمساوي)..؟!
وبعد..
إذا صدق ما يقوله المؤرخون السياسيون الأمريكيون.. بأن لكل رئيس (حربه) التي يثبت بها نفسه وجدارته ك (زعيم) للبيت الأبيض، فإن انتزاع السلام للفلسطينيين.. من الإسرائيليين، هي حرب الرئيس أوباما الأولى.. الأشرس والأخطر، وعند ساعة النصر فيها ستعلم نوافذ البيت الأبيض وسجاده الأحمر، ورخامه الأبيض، والعالم كله.. بأن هناك رئيساً أمريكياً (أسود) يحتل المكتب البيضاوي.