Al Jazirah NewsPaper Tuesday  02/06/2009 G Issue 13396
الثلاثاء 09 جمادىالآخرة 1430   العدد  13396
العقل السلفي والتجديد
عبد الله بن محمد السعوي

 

تشرفت مؤخراً باستضافتي في (قناة دليل) الفضائية التي يشرف عليها فضيلة الشيخ الدكتور سلمان العودة -حفظه الله- وذلك في برنامج (فضاء الرأي) الذي يديره بكل كفاءة واقتدار الأستاذ محمد الدكان. وقد كان الحديث عن التجديد لدى العقل السلفي.

ومن منطلق الرغبة في إشراك القارئ ارتأيت تلخيص فكرة هذا الموضوع الحيوي الذي تم تناوله في هذا اللقاء.

الاستهلال هنا يتمثل في تناول العقل السلفي، ذلك العقل الذي دلف بحسبه منفعلاً- مع نصوص الوحيين بحسبها فاعلاً ينطوي على رصيد هائل من الأصول الحيوية المتكاملة التي تشكل مادة واسعة لحركة الاجتهاد في اطلالته المثرية المستوعبة لكل قشيب يتعين على الأرض على نحو يشي بحيوية النظام الإسلامي وبراعته النوعية في استيعاب الصيرورة الزمكانية في شتى وجوهها.

ذلك التفاعل بين العقل والنص تمخض عنه إنتاج معرفي هائل تفتقت عنه الذهنية السلفية في شتى ميادين الحقول العلمية. أما السلف فهم أهل السنة والجماعة الذين تبنوا الخط النبوي وفي مقدمتهم الصحابة - رضوان الله عليهم - الذين هم صفوة الجيل والبناة الأساسيون الذين دشنوا لمفهوم الحضارة الإسلامية ومن نسج على منوالهم حتى تلك اللحظة التي تلفظ الحياة فيها أنفاسها الأخيرة.

السلفية ليست مرحلة مؤطرة بظرف زمني محدود وليست حزباً من الأحزاب ذات المنحى التنظيمي الهيكلي الهرمي وإنما هي فئة تفيئ إلى محددات منهجية نبوية لا تنفك عنها حتى يسدل الستار على نهاية الزمن.

تلك السلفية بمدلولها الموضوعي هي الإسلام، كما يؤكد ذلك طائفة من القيادات الدينية السابقة والمعاصرة كابن تيمية والألباني وابن باز وابن عثيمين والفوزان والزنيدي في كتابه النفيس (السلفية وقضايا العصر) وذلك لأنها هي منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

أما موقف السلفية من التجديد فهي تحتفي به وتوليه عناية بالغة انطلاقاً من ذلك الحديث الذي يفيد أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها، فالتجديد يستوحي أصالته الجوهرية من هذا الحديث. إذاً السلفية بطبيعتها تجديدية وترحب بكل توجه تجديدي منبعث من الأصول وملتزم بالشرط المنهجي. ليس ثمة ثنائية انشطارية بين السلفية والتجديد بل ثمة رباط وشائجي في منتهى العمق يحكم طبيعة علاقتهما الاتصالية.

العقل السلفي يتعاطى مع مصطلح (التجديد)- كمصطلح ذا حمولة دلالية حمالة- بآلية استفصالية دائماً ما يعتمدها إبان مقاربته للمتظهرات المعرفية والتجليات الفكرية التي تعاني من إشكالية التحديد التوصيفي للمصطلح، فهو لكي يهتدي للكُنْه الماهوي وليتلمس المملح المآلي وليقف عن كثب على المجال المعرفي والحقل الدلالي الذي ينتمي إليه ذلك المصطلح فإنه يستفصل عنه ليفوت الفرصة على من يتوخى شحنه بمحتويات رغبوية لا تعبر إلا عن ضرب من المكر الأيديولوجي الذي يؤوب على محتواه الفعلي بالإطاحة. الاستفصال شرط أولي في التعاطي مع التمظهرات اللغوية السيالة بحسب ذلك هو المَعبر الآمن لتجافي الالتباس الدلالي ولتفادي السقوط في فخ متتاليات الفوضى المصطلحية. وبناء على هذه الممارسة الاستفصالية فإن التجديد المعتبر لدى العقل السلفي هو ذلك الذي يقوم بممارسة تصحيحية ممتدة النطاق تعيد صياغة ما ذبل من التشكلات المفاهيمية وما تهلهل من الأطر المعرفية وتباشر إحياء ما اندرس من الملامح القيمية وتعيد الحيوية لجملة من المفردات الشرعية التي ظل حضورها باهتاً في الذاكرة الجمعية فتعمل على إشاعتها وشعبنة معالمها وحمل الكافة على تجسيدها على أرض الواقع هذا من جهة, ومن جهة أخرى تنقية الدين من التجليات البدعية وما أضيف إليه من التصورات الذهنية النمطية المشوهة والعودة به الى أصوله النقية الأولى. إذاً التجديد هنا ليس هو بتّ التواصل مع الماضي والانفصال عن تلك البرهة الزمنية الآنفة بقدر ما هو إعادة إنتاج لما يحمله ذلك الماضي من مواد حيوية ذات مرونة عالية بما تنطوي عليه من دينامية التفاعل الحضاري ومواكبة التطور الزمني.

التجديد المرفوض لدى ذلك الوعي هو الذي يوظف لإلغاء إملاءات القيم النصية والخلط الفوضوي بين تنقيح المناط وتحقيق المناط والثورة على المقدس والاستخفاف بالمتعاليات وتحويل النص إلى عنصر هلامي قابل للتكيف حسب ما يراد، فهذا السلوك ليس إلا عاملاً فعالاً في تعزيز التخلف وتعميق التبعية لأنه يمثل نقيضاً معرفياً للأسس القارة المكونة لهذا الدين. كثير من الداعين للتجديد هم عند التحقيق من المتطفلين عليه مفتقرين لشرائطه، ولا شك أن ثمة سمات عديدة لابد أن ينطوي عليها من يتصدى للتجديد، فالمجدد المؤهل هو ذلك الذي تتجلى في منحاه المسلكي قسمات الخط النبوي ويتوافر على وفرة معرفية رحبة يطال مردودها مجايليه وتتيح له تقديم تصور عن الإسلام مرتبط بالزمان والمكان موصول بالواقع مشروح بلغة العصر منفتح على الاجتهاد يستلهم الماضي ويعايش الواقع الآني ويبني عليه رؤية مستقبلية نائية المدى ومتحررة من التقوقع المذهبي.

وقد شهدت السلفية عدة مجددين كعمر بن عبدالعزيز والشافعي وأحمد بن حنبل وابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب، ولو تناولنا ابن تيمية كنموذج فقد جسد الفعل التجديدي في أعلى صوره، فقد جاء خطابه مشتبكاً مع المباشر والمتموقع ولم يكن خطاباً تجريدياً أو محلقاً في سماء المثل كما يفعل الفلاسفة. ابن تيمية كعَلم وكمَعْلم أيضاً احتوى على ثراء واسع نعاين تجلياته في ذلك التراث الضخم الذي قدمه في جوانب حيوية متنوعة في ميادين المعرفة الإنسانية.

لقد عاش ابن تيمية في برهة زمنية تتسم بانحطاط شمولي سياسي وأخلاقي واجتماعي فدشن عمله الإصلاحي، ومع أنه كان في بدايته حنبلياً إلا أنه تجاوز الإطار الحنبلي إلى رحابة الانفتاح الفقهي وسعة الاصطفاء الانتقائي من بين المذاهب أحياناً وأحياناً تبنى أطراً فكرية جديدة. لقد استطاع بعقليته الجبارة أن يرتب العلاقة بين العقل والنقل في تحفته الثمينة (درء التعارض) والتي أسس فيها لمعادلة العقل والنص وأكد أن العلاقة بينهما محكومة بالتواصل والاتصال لا بالسجال والتنافر. لقد جاء التجديد التيمي متسماً بمفاصلة زخم كمي من المفردات المناهضة للتجرد، كالتعصب المذهبي والتشنج العلمي والميل الى العيش على هامش الحياة وعمل على مناهضة التجديفات العقدية التي لا تسهم إلا في إرباك الثقافة الجمعية وتمزيق السلم الاجتماعي. التجديد التيمي باشر صياغة تقنيات كان لها دور حيوي في بلورة خطاب انسجم مع مواصفات المرحلة وتفاعل مع طبيعة محددات اللحظة وتعاطى بآلية منهجية مع النتاج الثقافي التأويلي الذي أبدعه العلماء من قبله، فهو تعاطى معه بحسبه جهداً ثميناً ومقدراً وبحسبه صرحاً علمياً متيناً لا يمكن أن يلغى بكلمة عابرة أو بجرة قلم لكنه أيضاً ليس نهائياً بل هو قابل للإضافة والتمدد وإعادة التقنين. لقد كان خطابه التجديدي ملامساً لهموم الناس متلمساً لأوجه معاناتهم الأمر الذي أكسبه زخماً شعبياً وامتداداً جماهيرياً واسعاً. إنه يدرك أن الرؤى النهضوية لا تستوحي وزنها الحقيقي إلا من خلال الاتصال بالناس واستشعار أحاسيسهم والدفع بهم نحو السلم الارتقائي, ويدرك أن الخطاب الإصلاحي المفتقر للبعد الشعبي سيظل ضئيل المردود ومحدود الأثر لانحباسه في زوايا ضيقة. إن الراصد للحراك التيمي يجد أن التجديد يشكل جزءاً من البنية العميقة لأطروحاته، فهي دائماً ما تقرر أن ليس بمقدور العقل بلورة منظومة رؤيوية كلية وتامة دفعة واحدة لأنه بطبيعته لا يعاين حقائق الوجود وماهيات الأشياء إلا على نحو تتابعي متدرج، ولذا فكافة مخرجاته محكومة بالجزئية والمحدودية، ومن هنا فهي مرشحة للمقاربة وسبر الأغوار ومن ثم التجديد. إن ثمة أطروحات بحثية تناولت السلفية ولكنها تجافت عن الموضوعية، فلم تتلبس بمستوى عميق من البعد الحيادي بل شابها لون من التحكم اللامنهجي المفتقر لمسوغاته، حيث وضعت كل التيارات السلفية في إطار واحد وجمعتها في النعوت السالبة، بل ثمة من يلتقط من كل تيار سلفي أسوأ ما فيه ثم يزعم أن مجموع هذه المآخذ هي التي تمثل النهج السلفي! وهذا موقف أيديولوجي محض لا يمت إلى التجرد بصلة. لقد غاب عن هذه الأطروحات أن السلفية منهج ومن ثم يجب أن تحاكم الى منهجها لا إلى الأشخاص الذين يدعون الانضواء تحت لوائها، لأنه بالضرورة ليس كل من انتسب إليها ممثلاً لها. الإسلام ذاته منهج ولو حاكمناه إلى النماذج الشخصية التي تزعم تمثيله لشوهناه ولوّثنا صفاءه. هناك من يخلط في نقده بين السلفية كمنهج وبين السلفية كتيارات وشخوص, نعم السلفية في بعض صورها وقعت في أخطاء جوهرية وشابها أدواء في غاية الخطورة في بعض تشكلاتها- ولسنا هنا في مقام سرد تجليات خللها- ولكن يفترض عندما نلتقط مثل هذه الصور أن نحددها ولا نقع في خطيئة التعميم, فثمة من يتخندق ضد السلفية وذلك من خلال تسليط الأضواء على مثالب شخوصها -وهو لا يفطن أنه بهذا المسلك ثمة سلف له ويعزب عن علمه أنه ليس بدعاً في هذا التمترس- فعلى سبيل المثال ثمة من يتهم السلفية بالتكفير- ويجهل أن السلفية هي التي وضعت ضوابط منهجية دقيقة للتكفير فأوجبت توفر شروط وانتفاء موانع وفرقت بين جنس التكفير وتكفير المعين- ويضرب لذلك مثالاً بأن ثمة من كفر النووي وابن حجر ويغيب عن وعيه أن هذين الإمامين من أكبر أعلام السلفية، وكان من المفترض أن يذكر هذا التكفير في سياق البرهنة على أن السلفية هي التي كثيراً ما تقع ضحية للتكفير والتهميش, ولا غرو فأعلام السلف هم الذين كثيراً ما يتعرضون للنفي والحدية وكافة أشكال الإقصاء كما نلاحظ عندما سيطرت المعتزلة على مقاليد السلطة حيث أرغمت الناس على القول بخلق القرآن وسُجن جراء ذلك العديد من العلماء كالإمام أحمد بن حنبل وعُذب وبعده سُجن ابن تيمية، ولما تمكنت دويلات العبيدية والقرامطة والباطنية ناصبت السلفيين العداء ونكلت بهم بل وتعاطت معهم بلغة الحديد والنار. ومن الطرائف أن ثمة من يصم السلفية بالعنف ويستشهد على ذلك بحركة (طالبان) ولا يعي أن طالبان ليست سلفية بل هي ماتوريدية في الأصول حنفية في الفروع. وصفوة القول: فإن السلفية هي أول من يحفل بالتجديد ويحتفي بالتحديث بل وتدعو إلى (الحداثة) المنبثقة من منهجيتنا والمنبعثة وفقاً للرؤية الإسلامية للأشياء، وهي بذلك تتكئ على وفرة نصية وعلى مخزون من الأدبيات التي تؤسس للمنطق التجديدي وتكسبه الفعالية العميقة.



Abdalla_2015@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد