تشير بعض القوانين الفيزيائية إلى أن كثيراً من النجوم التي نراها الآن ليست إلا هالة انفجارات تمت خلال الأزمنة السحيقة.. لم يعد لها أثر ولا وجود إلا في أبصارنا؛ فقد قضى وميض اشتعالها وقتا طويلا في الوصول إلينا، وقد كان هذا الوقت كافيا لتلاشيها، وما نراه منها الآن ليس إلا هالة الانفجار الذي تم في الزمن البائد، وذاك يرجع إلى اتساع هذا الفضاء الذي لا يعلم مداه إلا الله..
أمر كهذا - سواء أكان صواباً أو مجانباً للصواب - يدعونا لأن نقف ملياً أمام فلسفة المسافات والأزمنة على مستوى طبيعتنا البشرية والنفسية وما نحمله ونكنه في داخلنا من تراكم زمني مليء بالمواقف على اختلافها.. وتراكم مكاني في المرور على كثير من الوجوه والمعالم.. ويستثير في دواخلنا السؤال المنطقي: متى سنرى هالة كثير من الانفجارات الشعورية التي نشعل فتيلها في دواخلنا أو يشعلها أي محيط بنا؟ وكيف سنراها؟ وما الوقت الكافي لوصول ذلك الضوء وتلك الهالة؟ وكيف نجعل من سطوتها وقسوتها زينة وهدى للسائرين؟
لن يحتمل فكري الإجابة عن سؤال بهذا التشعب؟ لكني سأمسك من الزمان والمكان طرفاً يشتركان فيه ويدخل في عمق معادلة الحكم والانطباع وتحديد المسار!..
إنه (البعد)! ذاك الذي يجعل من محاجر أعيننا التي لا تتجاوز قطر الحصاة.. نقطة مليئة بامتداد المكان في أقصر وقت؟ ومن ذاكرتنا التي لا نرى سيلاتها العصبية أرشيفا لأزمنة وحقب! فكيف لنا أن نفتح عدسات أعيننا لنجمع بداخلها كثيرا من الزوايا والأمكنة؟ وكيف لنا أن نختزل في ذاكرتنا تواريخ أمم أشرقت عليها شمس الوجود ثم غابت؟ ذاك هو (البُعد) الذي أرمي إليه حساً وروحاً..
(البعد) قضية تتمحور حولها الكثير من الأمور، وهو سر يقلب الموازين؛ فما الذي يجعل من لهيب النار دفئاً ونوراً غير (البُعد) عن وسطها! وما الذي يجعل من غدر البحر تجلياً وتأملاً غير (البعد) عن جوفه! وما الذي يجعل من الظلم تجربة ونجاحا غير (البعد) عن ظلماته! وما الذي يجعل من المصائب حكمة ومدرسة غير (البعد) عن شرائكها! وما الذي يجعل من الآلام عملا وأملا غير عن (البعد) مكامنها! وما الذي يجعل لأعمارنا قيمة محسوسة غير (البعد) عن بداياتها! هو سر مرتبط في اتساع البصيرة التي قرنها الله تعالى بالتأمل في خلقه وعظيم صنعه فقال جل في علاه: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها}، والمسير ابتعاد..
(البعد) الموزون عن الشيء فرصة للرؤية بوضوح سواء أكان (بعدا) زمانياً أو مكانياً أو حتى زمكانياً..
فهو مساحات نمارس فيها حريتنا حتى ولو ارتدت أشكالاً أخرى في أماكن غير الأماكن وأزمنة غير الأزمنة! فلو أنا التصقنا بالشيء لكنا كملتصق بجذع شجرة خضراء لا يرى منها إلا شحوب جذعها، ولو أنا بالغنا في ابتعادنا لكنا كمن يدعي رؤية حبة رمل في فلاة..! (البعد) أداة حساسة لو أحسنا قياساتها وعرفنا موازينها.. لتجاوزنا كثيراً من عوائق الزمن المقدر لنا.. ولعلمنا أن البعد عن شيء.. بلا ريب اقتراب من شيء آخر..
(وأسمع في البُعد
صوت الرفاق
فيزهر في الروح
حلمي الجميل....).
(منذر أبو حلتم)
almdwah@hotmail com