تناولت في مقال (السبت) الماضي ما صدر عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي وبعض علماء الشريعة حول مسألة (التورق المصرفي)، وقولهم بتحريمه، ومطالبة المصارف بتفعيل (القرض الحسن)، والدخول بصيغ تمويل إسلامية أخرى بدلاً من التورق الذي لحق به الكثير من الجدل في الآونة الأخيرة.
فقه المعاملات مليء بالعقود الإسلامية المتوافقة مع متطلبات القطاع المصرفي، إلا أنها لم تصل مرحلة التطبيق الواسع الذي حظي به عقد (التورق). ما يقرب من 80 في المائة من مجمل محافظ القروض الإسلامية الموجهة للأفراد في السعودية تمت وفق صيغة (التورق) التي حظيت بمصادقة الهيئات الشرعية خلال الخمس سنوات الماضية. الفتاوى المجيزة ل(التورق المصرفي) بضوابطه، هي التي دفعت بكثير من المواطنين إلى الاقتراض من البنوك التقليدية، والإسلامية بعد أن كانوا متحفظين لأسباب شرعية صرفة. نحفظ لبعض العلماء تحريمهم (التورق) منذ ظهوره في البنوك السعودية، إلا أنهم كانوا قلة أمام جمهور العلماء المجيزين له وفق الضوابط الشرعية، ومنها فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والتي جاء فيها (مسألة التورق هي أن تشتري سلعة بثمن مؤجل، ثم تبيعها بثمن حال على غير من اشتريتها منه بالثمن المؤجل؛ من أجل أن تنتفع بثمنها، وهذا العمل لا بأس به عند جمهور العلماء). عدد آخر من العلماء الثقات، والهيئات الشرعية قالوا بإباحة التورق المصرفي بشروطه المعلنة، ولم يصدر عنهم، حتى اليوم، ما يخالف ذلك. بقي الأمر مرتهناً بآلية التطبيق، ومدى توافقها مع متطلبات الشريعة الإسلامية، وتطابقها مع مضمون فتوى العلماء. وهنا نشير إلى أن المصارف الإسلامية والبنوك التقليدية تعتمد في تقديمها المنتجات الإسلامية، ومنها (التورق)، على فتاوى الهيئات الشرعية الموثوقة التي تزخر بعلماء أجلاء ثقات، بعضهم أعضاء فاعلين في هيئة كبار العلماء، ولا يكتفون بذلك بل يصرون على وجود لجان الرقابة الشرعية التي تتأكد من آلية التنفيذ، وتطابقها مع متطلبات الشريعة وفتوى العلماء.
نحن أمام مسألة فقهية تحتاج إلى كثير من الدراسة، البحث، والتروي، وتتطلب من علمائنا الأجلاء توخي الحذر في التعامل مع (المصطلحات الفقهية) المتخصصة التي قد تحمل المتلقي إلى الإعتقاد بحرمة بعض المنتجات الإسلامية المباحة، متشابهة الأسماء، مختلفة المضمون والتطبيق. غموض المفهوم، وتعارض الفتاوى يُقحم الأمة في جدل واسع يضر بمسيرة المصرفية الإسلامية، ويشكك المسلمين بأقوال العلماء الثقات، خاصة وأن أصل (التورق) قد أجازه جمهور أهل العلم (إذا كان مستكملاً لشروط البيع وأركانه وانتفت عنه موانع صحته). العامة لا يمكنهم التمييز بين (التورق المنظم)، (التورق العكسي) و(التورق الحقيقي المعروف لدى الفقهاء المتقدمين)، كما أنهم غير ملمين بموانع الصحة ما يجعلهم معتمدين على فتاوى العلماء، والهيئات الشرعية، مطمئنين لها. طرح القضايا الفقهية المتخصصة عبر وسائل الإعلام تستدعي التعامل معها بحذر على أساس أنها تمس الشريحة الأكبر من المواطنين. مسألة (التورق) باتت على علاقة مباشرة بغالبية الأسر السعودية المتدينة التي لم تقدم على الإقتراض إلا بعد أن تيقنت من إجازة (التورق) شرعاً بتأكيد العلماء الثقات. تلك الأسر أصبحت الآن في دائرة الشك حيال ما أقدمت عليه من الدخول في عقود لحقها الكثير من الجدل الفقهي؛ فهل يُقبلُ بمثل هذا الجدل المتأخر الذي أقحم الأمة في دائرة الشك الذي لن تخرج منه إلا بإتفاق العلماء حيال حكم مسألة (التورق المصرفي) المقدمة من المصارف الإسلامية، والتقليدية؟. بقي أن نقول إن اتهام المصارف بتقديمها قروضاً إسلامية (مخالفة للشريعة) يمكن أن يطال الهيئات الشرعية والرقابية المشرفة على عمل تلك المصارف، ويؤدي إلى نزع الثقة من المصارف الإسلامية، والمنتجات المتوافقة مع متطلبات الشريعة التي تقدمها البنوك التقليدية العازمة على التحول إلى المصرفية الإسلامية الشاملة، التي كان في تواجدها رحمة، وانعتاقاً من حتمية المعاملات الربوية. القول بحرمة (التورق) يعني إلحاق الشبهة بأموال المصارف الإسلامية المُقدمه له، والتي يُفترض أن تكون أموالها قد أختلطت بأموال الربا ما يخرجها من دائرة المصارف الإسلامية النقية. ويعني أيضاً إقرار الجهات الرقابية، وعلى رأسها البنوك المركزية، وسماحها للمصارف بممارسة (الاحتيال الديني) على عملائها بتقديمها منتجات (مخالفة للشريعة الإسلامية)، وربما كانت: (أكثر خطورة من الربا)، كما يعتقد بعض العلماء!.
(جدل التورق) لن يتوقف عند تبيان الحكم الشرعي، كما يُعتًقد، بل سيتجاوزه إلى جهات أكثر عمقاً واتساعاً مما تصوره مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وهو ما يتطلب التعامل معه وفق نظرة شمولية تأخذ بالحسبان فتاوى جمهور أهل العلم، ومصداقية الهيئات الشرعية، وثقة الأمة بعلمائها، وأمانة الجهات الرقابية، إضافة إلى صناعة الصيرفة الإسلامية المتضررة من نقل الجدل الفقهي المتخصص من أروقة (المجامع الفقهيه) إلى أعمدة الصحف ووسائل الإعلام.
أختم بإعادة طرح فكرة (إنشاء بورصة للبضائع في سوق المال السعودية يمكن أن تعتمد عليها المصارف في تنفيذ عقود التمويل الإسلامية، وتمكن عملاءها المستورقين من حيازة بضائعهم من خلال الأوراق المالية التي تودع لحساباتهم الخاصة في البورصة، ومن ثم يقومون باستلامها، أو مباشرة بيعها في السوق، لأطراف أخرى لا علاقة لها بالمصرف، وبطريقة إلكترونية كما يحدث حالياً في سوق الأسهم. بورصة البضائع المنفصلة عن المصارف قد تقضي على غالبية الشبهات المحيطة ببيوع (التورق)، وتُعيدها إلى دائرة (التورق الحقيقي) المعروف لدى الفقهاء المتقدمين، بإسلوب تقني حديث).
* * *
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM