يقدم ابن خلدون في مقدمته لنظرية العمران البشري ثلاثة مبادئ أساسية:
1- ضرورة الاجتماع للبشر، واستحالة معيشتهم منفردين.
2- ضرورة وجود الوازع (الرادع) للبشر ليدفع عدوان بعضهم عن بعض، وامتناع بقائهم بلا وازع.
3- عدم ضرورة وجود الشرع للبشر، وإمكان دفع العدوان بسطوة الملك، ولم يكن شرع.
بالنسبة للمبدأ الأول شرحه ابن خلدون شرحاً وافياً في هذا الباب حيث أشار إلى أن قدرة الواحد من البشر قاصرة على تحصيل حاجته من الغذاء، لذلك لابد من اجتماع أكثر من فرد بهدف الحصول على الغذاء، وبهدف الدفاع عن النفس أيضاً ولابد من استعانة الفرد بأبناء جنسه.
ويتفق جورج زمل مع ابن خلدون في أن المجتمع لا يقوم إلا بوجود عدد معين من الأفراد يدخلون في علاقات متبادلة، وبالتالي يصبح المجتمع بمثابة عملية تبادل، أو اتصال، تدخل فيها مجموعة من الأفراد في تفاعل متبادل.
أما المبدأ الثاني، ويقرر فيه ضرورة وجود وازع في كل اجتماع، قائلاً: (إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم فلابد من وازع يدفع بعضهم عن بعض).
ويبرر ابن خلدون ذلك أن دفع هذا العدوان لا يمكن أن يتم بالأسلحة التي تستعمل بدفع عدوان الحيوانات لأن تلك الأسلحة موجودة للجميع فلابد من شيء آخر، لذلك من البديهي أن يكون هذا الوازع إلا من بني البشر، ويكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة، حتى لا يطوله أحد بعدوان، وهذا ما قصده بالملك. وأكد ابن خلدون على هذا المبدأ في أكثر من موضع وبعبارات متنوعة: (فمن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعضهم على بعض، فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه امتدت يده إلى أخذه، إلى أن يصده وازع).
كما قال الشاعر:
والظلم من شيم النفوس
فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
وهذا هو الأساس الذي يبني عليه ابن خلدون نظريته في (الاجتماع والملك والدولة).
وأشار ابن خلدون في قوله: (إن الاجتماع الإنساني ضروري، إن الحكماء عبروا عن هذا قبله بقولهم: الإنسان مدني بالطبع، أي لابد له من الاجتماع، أي المدينة في اصطلاحهم بمعنى العمران).
واعتبر ابن خلدون (الاجتماع) أو العمران: طبيعياً في البشر، مثل العدوان، فربط فكرة الدولة والملك، والوازع والحاكم (بمبدأ العمران من وجهة ومبدأ العدوان من جهة أخرى)، إذ قال: (الدولة دون العمران لا تتصور، والعمران دون الدولة والملك متعذر، لما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى التنازع).
أيضاً من بين علماء الاجتماع الحديثين عالمان عنيا بدراسة الدولة من حيث نشأتها في التاريخ وطبيعتها.
واعترفا بأنهما استفادا في ذلك من نظرية ابن خلدون، وهذان العالمان هما جومبلوتز وأوبنهايمر.
وانتقد جومبلوتز (العقد الاجتماعي) لتعليل نشأة الدولة، وهي التي جاء بها روسو وهوبز ولوك، حيث رأى جومبلوتز أن هذه النظرية صحيحة تاريخياً فالدولة في رأيه لم تنشأ من جراء عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، وإنما نشأت من جراء النزاع بين الجماعات البشرية المختلفة وسيطرة إحداها على الأخرى. وتعد نظرية جومبلوتز هذه أحدث وأوثق نظرية جاء بها علم الاجتماع الحديث في موضوع الدولة.
وكما يتضح أن أفكارها مستمدة من نظرية ابن خلدون.
وبعده جاء أوبنهايمر بنظريته ليقرب أكثر من النظرية الخلدونية. حيث رأى أوبنهايمر أن الدولة نشأت من جراء النزاع بين البدو والحضر. بالنسبة للمبدأ الثالث فإن ابن خلدون يعترض على من يزعم بأن الحكم الوازع للإنسان يكون بشرع مفروض من عند الله. حيث إن ابن خلدون يفند هذه المزاعم بقوله: (إن الوجود والحياة للبشر قد تم من دون ذلك، بما يفرضه الحاكم لنفسه، أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته). ويعود ابن خلدون إلى هذه المسألة في فصل بعنوان اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه، ويكرر رأيه فيها: (بأن الوازع إنما يكون بشرع من الله يسلم له الكافة تسليم إيمان واعتقاد) لا يستند إلى أساس صحيح، لأن الوازع قد يكون بسطوة الملك وقهر أهل الشوكة ولو لم يكن بشرع.
وهنا ابن خلدون يميز بين الوازع الداخلي للفرد الذي ينشأ نتيجة من عقيدته الدينية، وبين الوازع الخارجي المعتمد على سطوة الحكام وسلطتهم.
وقد كرر ابن خلدون هذا التمييز في عدة مواضع من المقدمة، وسمى كلا منهما باسم خاص: النوع الأول: (الوازع الديني)، والثاني: (الوازع السلطاني والعصباني)، وأشار إلى نوع ثالث من الوازع وهو ما يسمى (الوازع العقلي) وذلك حين قال عبارته: (يكفى في رفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه بحكم العقل)، وقد توسع ابن خلدون في شرح كل من (الوازع الديني)، و(الوازع السلطاني والعصباني) في فصول كثيرة لكنه لم يعد لفكرة (الوازع العقلي بشكل مفصل).
أفكار ودراسات حول ظاهرة العنف
إن قاموس المورد (1981م) عرف العنف بأنه: (هجوم لم يسبقه استفزاز يبرره)، ووصف المعتدي بأنه عدواني، وأن السلوك تارة يكون اعتداءً وتارة عداءً وتارة أخرى عنفاً وقد تكون هذه الظاهرة مجتمعة، وأن بعض الدارسين يرى أن الأكثر فائدة ضم السلوك بكل تعبيراته الظاهرة والباطنة لمفهوم الإكراه وأن فقهاء الشريعة الإسلامية قسموا الإكراه إلى ثلاثة أقسام: أولها الإكراه الملجئ وهو التهديد بما يعرض النفس أو عضو من الأعضاء للتلف كالتهديد بالقتل، والتهديد بقطع عضو من الأعضاء، والتهديد بضرب يؤدي إلى شيء من هذا، وقد ألحق بعض العلماء بهذا التهديد إتلاف المال كله وهذا الذي يسمى إكراهاً تاماً، أما النوع الثاني من الإكراه هو الإكراه غير الملجئ فلا يتلف النفس ولا العضو ولا كل المال، والنوع الثالث وهو الذي لا يؤثر في أصل الرضا، أي لا يعدمه وهو التهديد بالأذى ينزل بأحد أصوله أو فروعه أو أحد أقاربه بدون إتلاف النفس أو العضو.
التفسير البيولوجي والوراثي للعنف
1- لقد توصل العالم (سيزار لومبروزو) في عام 1986م إلى أن الخصائص الحيوانية تعاود الظهور في بعض المجرمين، ولقد حاول لومبروزو إثبات أن المجرم المحترف لا يشبه الإنسان البدائي في تصرفاته فحسب بل وفي تكوينه الجسدي أيضاً وأن معظم البحوث البيولوجية في مجال الانحرافات السلوكية وبالتحديد العدوانية والعنف لا تنطلق من الموروثات في حد ذاتها ولكنها تبنى على ملاحظات إكلينيكية وبيوكيميائية وانطباعات عن الوراثة.
2- تبين الدراسات الإكلينيكية (النظام الحرفي) وهو عبارة عن الحافة الداخلية للقشرة المخية في المنطقة الوسطى والصدغية من نصفي الكرة المخية كموطن للانفعالات والعواطف وفي هذا الجزء مراكز تتحكم في سلوك الهجوم والهروب، ولكن ليست هناك مراكز شبيه للعدوانية والعنف، ومن المحاولات الإكلينيكية أيضاً ربط العنف والعدوانية بمرض الصرع (الصرع الفص الصدقي)، كما أن بعض العلماء يعزون ظاهرة السايكوباتية (إلى اختلاف الشخصية)، وقد ذكر (هانز ايزنك) أن الشخص يولد انطوائياً أو انبساطياً.
3- البيوكيمائية: (الوصلات العصبية والهرمونات وتعاطي السموم) إن الدراسات البيوكيميائية أثبتت أن الزيادة في كمية (الدوبامين) في النظام الحرفي تسبب الانفصام، وأن مسببات الاكتئاب النقص الحاد في (نقلات نورابينفزين وسيروتونين) وكلاهما متصل بالنقلات العصبية المسماة (كاتيكولامين) النشطة في الجهاز العصبي السمبتاوي.
وتفيد بعض الدراسات بأن لطبيعة الموقف التي يتعرض لها الفرد ولشخصيته قدراً كبيراً من التأثير، إلا أن هناك بعض الدراسات ترى انه لا مكانة للربط بالتغيرات الفسيولوجية مباشرة بسلوك العدوان والعنف، إذ إن غالبية التغيرات تأتي كردود فعل للمؤثرات الخارجية، وأن هناك استثناء يؤسس على حقيقة أن الذكور في كل الكائنات أميل للعنف والعدوان من الإناث، ومن هنا تأتي أهمية (هرمونات الجنس)، وقد أشارت بعض الدراسات التي أجراها (فرانكلين، 1992م)،أن استخدام الكحول يؤدي إلى ارتكاب العنف، وفي مجال وراثة السلوك العدواني جرت عديد من الدراسات شملت توائم متماثلة على افتراض تقليدي وليس عملي بأن تشابه التوائم المنحدرة من بويضة واحدة ملحقة في السلوك سوف يفوق في نفس السلوك تشابه توائم متباينة من حيث الإرث الجيني.
إن (لورنز) في كتابه الموسوم عن العدوانية عام (1969م) عرف العدوانية بأنها (غريزة المشاجرة في الإنسان والحيوان) كما أنه يرى أن العدوانية في الكائنات (غريزية) أي فطرية وهي رابع ثلاث غرائز أساسية هي الجوع، والجنس، والمشاجرة.
كما أن (لورنز) يذكر بأنه ليس بالإمكان احتواء العدوانية أو إزالتها كلياً ولكن يمكن الوقاية من عواقبها عن طريق إعلاء الغريزة من خلال ممارسة الرياضة والمشاركة في الألعاب التنافسية مثل الأولمبيات والقيام بمغامرة استكشافية وغيرها من الممارسات التي تستثمر طاقة العدوان بشكل اجتماعي سليم.
التفسير النفسي و الاجتماعي للعنف: إنه لا يوجد مخترع للخير أو الشر من البشر ولكن توجد ابتكارات فردية أو جماعية أو الاثنين معاً تتعلق بمعايير الخير والشر ومفاهيمها وتعريفاتها فالتعدي على الذات أو غير الذات من دون حق أو مبرر معقول يعتبر كونياً ضرباً من ضروب الشر والعكس من ذلك يعتبر صنفاً من صنوف الخير.
وفي دراسة أجريت في عام (1985م)، أجراها كل من (باركر وزملاؤه) للربط بين الإحباط والعدوانية وتلك الدراسة كانت على مجموعة من الأطفال قسموا إلى قسمين حرم بعضهم من اللعب لفترة وترك بعضهم يمارس اللعب، وكان الطرف الآخر يراقب اللعب من خلال حواجز زجاجية مما أظهر الميول العدوانية لديهم أكثر من الأطفال الذين كانوا يمارسون اللعب.
وأثبتت بعض الدراسات الميدانية أن السمات الشخصية ودور الأسرة وغيرها من الكيانات المرجعية والعوامل الاجتماعية في نشوء واستفحال ظاهرة العنف أن جميع مناحي الفكر النفسي تؤكد أن الانفعالات تبقى ثابتة بشرط من اثنين: إما باستمرارية ظروفها الذاتية المتمثلة في اللاشعور والذاكرة أو استمرار الظروف الخارجية المتمثلة في البيئة المحيطة بها، وعلى سبيل المثال دراسة (ديفيد فارنجنجيون) من معهد علم الجريمة بجامعة (كيمبردج) ذكر أن (70%) من عينة الأحداث الذين ارتكبوا جرائم عنف وأوقفوا بسبب هذه الجرائم في سن (21 سنة)،كانوا من ضمن الذين صنفهم زملاؤهم في الدراسة قبل 9 سنوات على أنهم من أكثر التلاميذ عدوانية وعنفاً.
وأن الاكتئاب هو أخف أعراض كبت العدوانية لأنه يعمل كآلية دفاعية للتنفيس عن العدوانية، كما أن بعض التحليليين أعطوا النزعات العدوانية أهمية أكثر من الدوافع الجنسية ومنهم العالم النمساوي (الفرد أدلمر) والذي تحدث عن أربعة أنماط من الشخصية تتكون خلال الخمس سنوات الأولى من العمر وتتشكل بحسب التنشئة الأسرية وجنس الطفل وترتيب الطفل الميلادي والأنماط هي: البناء النشط والبناء الخامد والتدمير العدواني النشط والتدميري الخامد ومن ضمن العوامل الاجتماعية البارزة أيضاً في مجال تعلم السلوك العدواني قسوة الأبوين في معاملة البنين ولجوئهم للعقاب الجسدي في التنشئة، كما ذكر بعضهم أن مشاهدة الأبناء لصراع الأبوين تقوي احتمال العدوانية الأسرية عبر الأجيال.