الأصل في المباحات أن من حق ولي الأمر إذا ما وجد مصلحة راجحة، أو دفع ضرر محتمل، أن يقيد المباح حسب القاعدة الفقهية التي تقول: (إن للحاكم المسلم أن يمنع جمهور المسلمين من بعض ما هو مباح في الأصل، إذا ترتب على فعلهم لهذا المباح مفاسد كبيرة تبرر هذا الحظر، على أن يكون هذا الحظر مقدراً في نوعه وزمنه بمقدار ما يترتب عليه من المفاسد؛ فهو أشبه بمنع الطبيب المريض من بعض الأطعمة - المباحة في الأصل - لعلة مؤقتة ينتهي المنع بانتهائها).
تعدد الزوجات في الإسلام من القضايا التي أباحها المشرع للمسلم كما هو معروف. يقول أحد الباحثين: (إن الله أباح لنا أن نتزوج من النساء إلى أربع بشرط أن نتيقن العدل معهن، ولا نظلم واحدة منهن، فإن خفنا عدم العدل، وتوقعنا الشطط فلا يباح سوى واحدة، ويكون الاقتران بأخرى عند ذلك ممنوعاً. والعدل الذي يشترطه الإسلام هو الداخل في نطاق الوسع من النفقة والمبيت ولا يمكن أن يراد به ما يشمل ميل القلب؛ فهذا أمر خارج عن الطاقة وقد رفعه الله عن العباد). وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة، وشقه مائل)، غير أن هناك مشاكل قد تترتب على هذا التعدد، حسب المتغيرات التي اكتنفت العصر، وأهمها فساد الذمم، قد تنتهي إلى (عدم العدل). ومن ذلك إقدام بعض الأزواج على التعدد دون أن يكون قادراً على الوفاء بمتطلبات الزوجة الأولى، وتحديداً نفقتها ونفقات أبنائها، أو عدم القدرة على فتح بيتين في آن واحد؛ الأمر الذي سينعكس على الزوجتين معاً انعكاساً سلبياً. قضايا النفقة وتهرب الأزواج من النفقة على الزوجة الأولى وأبنائها تمتلئ بها محاكمنا، وهي من القضايا التي سببها في الغالب أن الزوج عندما أقدم على الزواج كان دافعه في البداية مجرد التمتع بالزوجة الجديدة دون أن يفكر فيما قد ينتج عن الزواج الجديد من التزامات مادية، ولا سيما حينما ينتج عن الزواج أبناء. وأمام هذه المشاكل التي تتكاثر مع الزمن، خاصة بعد أن دخلت أنواع من الزواجات لم تكن معروفة في السابق، مثل زواج المسيار، أو المسفار وما شابهها، وسهولة عقد مثل هذه الأنواع من الزواجات من الناحية الإجرائية، فإن تدخل الدولة في تنظيم تعدد الزوجات، وضبطها، وتقليص ما يترتب عليها من سلبيات محتملة قضية ملحة، بحيث لا يتم السماح بالزواج من امرأة ثانية بسهولة، وإنما عن طريق (القاضي)، الذي بدوره يمنح حق السماح بالتعدد إذا تأكدت له قدرة الزوج على الإنفاق على أسرتين، من الناحية المادية. المهم أن حقوق الزوجة الأولى وأبنائها والزوجة الثانية (الجديدة) وما قد يترتب لها من حقوق، تكون حاضرة عند السماح بالتعدد.
وقد ورد في الحديث (لا أحب الذواقين والذواقات) بمعنى أن يتزوج الرجل من امرأة طلباً لإشباع رغباته الجنسية ليس إلا، وعندما يشبع هذه الرغبة يطلقها ليتزوج من غيرها وهكذا. فإذا اتضح للقاضي من خلال سجل زواج الرجل وتطليقه أنه (ذواقة) فالأولى منعه امتثالاً للحديث آنف الذكر، إضافة إلى أن فلسفة الزواج في الإسلام تقوم على بناء البيوت وتدعيمها، وليس لمجرد إشباع الرغبات الجنسية.
كل هذه المسوغات الشرعية ومتطلبات مصالح المجتمع، التي أوردتها آنفاً، تسوغ في تقديري لولي الأمر تنظيم التعدد بشكل يحد في النتيجة من السلبيات التي قد يفضي إليها السماح بالتعدد دون أي قيود. إلى اللقاء.