أطلق ابن خلدون هذا المصطلح أن الإنسان مدني بطبعه - نسبة إلى المدنية وهي كناية على الاجتماع البشري وأنه بحاجة إلى إشباع احتياجاته عن طريق الاجتماع البشري وهذه حاجات أساسية.
ويقابل هذا نظرية الحاجات.
وأن هذه المعاونة لابد أن تبدأ بالمفاوضة وهي الاتصال ثم التفاعل والمشاركة ثم بعد ذلك تحث الألفة والصداقة نتيجة اتحاد الأغراض أو المشاجرة والتنافر والعداوة نتيجة تعارض الأغراض وهذا يقابله في الفكر الاجتماعي الحديث من المصلحة وتبادل المنافع.
ويقاس على ذلك ما يحدث بين الأمم والقبائل من حروب وسلم.
هذه خاصية البشر لما غيرهم من عقل وتفكير.
ويمكن ملاحظة ذلك في حياتنا المعاصرة من تغلب المصلحة في تنظيم الكثير من العلاقات والعقود في المجتمع.
وهي نوع من العقلانية التي تنادي بها بعض النظريات الاجتماعية ونجد أن هذا القول توافق مع نظرية ( هربرت ميد عن العقل والذات والمجتمع وذلك عندما يقول إن الكائنات الإنسانية لها طبيعة متميزة وأن هناك فارق بين التفاعل الإنساني وغير الإنساني حيث أن السلوك الإنساني يتطلب امتلاك العقل الذي يميزه عن غيره.
وأن معرفة البشر لمصالحهم يعود إلى ما يتميزون به من عقل وذلك من خلال التجربة الصحيحة.
لأنها معان جزئية تتعلق بالمحسوسات وأن ذلك يأتي من موازنات الواقع وليس مجرداً أن تعاليم الأخلاق مقدسة وهنا نجد أن ابن خلدون يعطي التجربة وظيفة البدء ، ويعطي للعقل وظيفة الاستدلال والاستنتاج وذلك يتفق مع فلسفة ( عمانوئيل كانط ) صاحب الفلسفة النقدية عندما ذهب إلى أن الظواهر التي ندركها بحواسنا هي وحدها ما يمكن معرفته بجهازنا العقلي.
ونجد كذلك أن هربرت ميد يرى أن العقل يعتبر الأداة أو الوسيلة التي تسعى لتكليف الفرد مع البيئة التي يعيش فيها من خلال الأنشطة.
وأن الإنسان يستفيد بقدر ما يقتضيه من التجربة والتي تحدد له ما ينبغي أن يفعل ويترك.
وقد يقل زمن التجربة إذا استفاد الإنسان ممن سبقوه من والديه ومشايخه وتقليدهم.
ومن يفوت هذه الفائدة فتسيء أوضاعه ويظهر عليه الخلل ويفسد معاشه بين أبناء جنسه وهذا معنى قولهم: (من لم يتعلم تعلمه الأيام أو الحياة).
أنواع العقل :
- العقل التجريبي : وهو العقل الذي يحدد من خلال التجربة ما ينبغي أخذه وتركه.
العقل التمييزي : وهو المسؤول عن إدراك الروابط السببية التي تربط الظواهر بعضها ببعض.
العقل النظري : المسؤول عن إدراك الكليات وإجراء العمليات العقلية العليا والربط بين القضايا ، والتعميم ، وترجمة المدلولات إلى معان وإجراء عمليات التجريد والمقارنة وإطلاق الفروض واختبارها.
وهو يأتي بعد العقل التجريبي والتمييزي وبكل هذا تكون النظرية والحصول على المعرفة العلمية.
ولك هنا أن تقارن ما يقوله مشال دي مونتيين في كتابه « المحاولات » الذي تناول فيه مسألة ارتباط الوعي بالواقع الاجتماعي ، حيث أنه طرح على نفسه سؤالاً حول مصدر الوعي البشري ملاحظاً أن الوعي عند الإنسان هو وعي اجتماعي فيقول « تتولد قوانين الوعي من التقاليد وليس كما يقال من الطبيعة فكل فرد منا يحترم داخلياً الآراء والعادات التي تجد موافقة وتقبلاً ممن حوله كما أنه لا يستطيع تجاوزها دون توبيخ أو تطبيقها دون ارتياح نفسي ».
الوعي له قوانين وهذه القوانين تتولد أي تخلق نتيجة ممارسات وقيم وعادات يزرعها السلف للخلف.
إن تقدم أي حضارة مرهون بتجاربها وممارساتها وليس بثروتها الفكرية المطلقة ، وقد ينطبق ذلك على العالم الإسلامي والأمة الإسلامية ومخزونها الثقافي والفكري ولكنه بين دفات الكتب لم يتجسد على أرض الواقع.
وفي المقابل مجتمعات العالم الأول التي استطاعت تحويل ثروتها الفكرية إلى ممارسة فعلية كيف وقد غيرت من حالها إلى حال أفضل.
إن النزعة العقلانية التي تعتمد على العقل في تفسير الظواهر الاجتماعية لم تتبلور عند ابن خلدون.
ولا نبالغ إذا قلنا ان فكر ابن خلدون مثل الومضة الفكرية العقلانية الوحيدة في القرن الرابع عشر وما بعده بمدة طويلة.
أما في الغرب فإن الوضع كان مختلفاً كالنزعة العقلانية التي وجدت عند فلسفة مدرسة التنوير في القرن الثامن عشر التي قامت بنقد فلاسفة الفكر الديني ونشروا الأفكار من خلال العودة إلى الطبيعة البشرية ، فالفكر من الطبيعي أن يتأثر بالظروف التي يعيش فيها الإنسان وتجارب الواقع هي التي تكّون الأفكار لدى الفرد.
إن العقل لا يعكس الحقيقة الصافية.
وإذا عجز عن إدراك هذه الحقيقة على وجهها الصحيح فإنه يعود إلى الأفكار التقليدية الموروثة والمجهولة الأصل والتحليل الميتافيزيقي.