هل تفنى الأيدولوجيا؟، وهل توجد فترة صلاحية أو مدة زمنية محدودة لبعض الأفكار السياسية أو الاقتصادية أو الدينية ثم تندثر، وتصبح أثراً فلسفياً في تاريخ البشر؟!.. أم أن حياتها وفناءها له صلة بالجذور والأصول التي ترتبط بها الأيدولوجيا..!
اختفت النازية في التاريخ الحديث كأيدولوجيا سلطة، لكنها ظلت علامة فارقة في تاريخ الفكر في العصر الحديث، وأثبتت تجربتها الدموية أن الأيدولوجيا أفكار نظرية من نظم الإنسان، لكن يتم رفعها إلى درجة التقديس من أجل فرض سلطته وخدمة مصالحه الذاتية الخالصة، فالنظرية الشيوعية كذلك تحولت بفعل الإنسان من نظرية إلى أيدولوجيا فتاكة لقرابة قرن، ثم خرجت من مسرح الأحداث بعد أن تحولت إلى أداة للقتل وللتشريد ولسرقة أموال الأوطان تحت شعارات المساواة والعدالة..
قد يختلف العمر الزمني من أيدولوجيا إلى آخرى، فالأيدولوجيات النظرية التي ليس لها جذور في المجتمعات معرضة للزوال سريعاً كما هو الحال مع النازية والشيوعية، بينما تعمر تلك التي ترتبط بالجذور، وتظل قادرة على التغيير، وتكتسب مع مرور الوقت مرونة وقدرات مدهشة في تطوير أساليب سيطرتها على الناس، وتأتي الليبرالية الغربية على رأس هذه القائمة، والتي قامت على قيم الحداثة الغربية لكنها غيرت مسارها التاريخي من معاداة العهد القديم إلى تبني أفكاره وأصوله بصورة غير مباشرة..
يعود هذا النجاح الباهر إلى قوة وعراقة جذور الأصولية البروستانتية البيضاء في مبادئها وأصولها، والتي أثبتت عبر التاريخ أنها متقدمة جداً في الكر والفر السياسي والاقتصادي، وأن لديها العقول المبتكرة والقدرة على التمويه في المنعطفات التاريخية، فقد تحالفت مع الشيوعية في الحرب ضد النازية، ثم اتفقت مع المد الأصولي الإسلامي ضد الشيوعية..، لتدخل في السنوات الأخيرة مرحلة جديدة هدفها تصفية الأصولية الإسلامية..
تظل الجذور مرتبطة بالإنسان، وإن هاجر بعيداً أو كان جيلاً ثالثاً أو رابعاً بعد الجيل الأول في البلاد البعيدة، وخير دليل على ذلك احتفاظ العرب المسلمين من المغرب والمشرق الغربي إلى أوروبا أو أمريكا الشمالية بتراثهم وبهويتهم، كذلك يظل اليهود شاهدين في التاريخ على قوة الجذور واستحالة اختفائها من هوية الإنسان وطرق تفكيره.
ربما لهذه الأسباب خلت ساحة التاريخ من مختلف الأيديولوجيات إلا من تلك التي تستمد قدسيتها من الجذور والأصول الموغلة في العراقة في رحمها التاريخي، وأعني بذلك أيدولويجيات الإسلاميين بمختلف مشاربهم، وأيدولوجيا الليبراليين التي تمتد جذورها أيضاً إلى إرث العهدين القديم والجديد.
لذلك أجد أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما في موقف صعب للغاية، فالرجل يحمل في جذوره هوية أفريقية مسلمة، ولا يزال أفراد من عائلته يعيشون من خلال تلك الهوية، وهو ما يجعل مهمته مستحيلة في أن يفكر من خلال العقل البروستانتي الأبيض، أو أن يؤطر قراراته ورؤيته للأحداث الاقتصادية والسياسية بالأيدولوجيا البروستانتية البيضاء، والتي كانت صاحبة الاستحقاقات في براءة صناعة الأحداث العالمية في القرنين الماضيين، بدءاً من الحروب العالمية والعولمة وانتهاءاً بمتلازمة فلسفتها الدينية مع الوعد التوراتي لأبناء العهد القديم.
كانت الجذور المشتركة العامل الموحد لكافة المؤسسين لهذه الأيدولوجيا الذكية، فيما عدا فترة جون كنيدي الرئاسية القصيرة والمنتهية باغتياله، وأيضاً في فترة انتخاب الأفروأمريكي باراك أوباما منذ شهور، والذي فسره بعض الخبراء أنها أحد أساليب التمويه الذكية للأيدولوجيا الأبرز في التاريخ الحديث، أي أن ما يحدث هو مجرد هدنة في طريق اجتياحهم لبقية العالم، بعد أن كشف تسارع الأحداث الأخير عن مخالب العصبية البروستانتية، ولكن هل يدرك الرئيس باراك أوباما دوره المؤقت، أم أن جذوره ستأبى أن يكون حصان طروادة القرن الحادي والعشرين.