وأنا أتجه إلى (اسطنبول)كان ذهني يتشابك بصور متضاربة متقاطعة وومضات غامضة, مكونة من سطور كتاب للكاتب التركي (أورهان باموق) الحائز على جائزة نوبل بعنوان أسطنبول في حقيبتي وبعض تفاصيل عن الدولة العثمانية في كتيب التاريخ التي درستها لنسيانها, بينما في جانب آخر يتواري في الذاكرة ضجيج بائعي الشاورما والحلاقون الأتراك في الرياض, وجوه التمثيلات التركية التي تعصف بالذوق الشعبي مع بعض شذرات من حكاية الطفل علي التركي النجراني
عند وصولي إلى ضفاف البسفور كان لابد لي أن أستنبت عينا ثالثة ومجسات لا متناهية للوعي, وأوغر عددا من الحواس الخفية كي تستطيع جميعها استيعاب مدينة ثرية طافحة باللون والملمس والرائحة تتطابق طبقات التاريخ فوق أبنيتها الواحدة تلو الأخرى كي تصل إلى وجه وحيد تظن أنه النهائي, لكن كل شارع أو قصر أو سوق مسقوف سيمنحك تجربة تستفز الحواس إلى أقصاها, لتعلم أن اسطنبول ليست تجمعا بشريا ينبت بجانب المضائق التي تطوق البسفور, أنها الإمبراطوريات تنهض الواحدة تلو الأخرى, باستبداد وتلغي تاريخ ولغة ورموز الحضارة السايقة وتغرس أعلامها, فالحضارة لا تندثر بل تغير رداءها الخارجي فقط.
في مدينة كوز التركية كان هناك أبوقراط أبوالطب, في مدينة طروادة استلهم هوميروس ملحمته الشهيرة ومازال مجسم لحصان طروادة قائما هناك, في مدينة أسبرطة قبل التاريخ ظلت تحمل كبرياء روحها العسكرية إلى أن ظهرت ثانية على شكل انكشارية الجيش العثماني فالتاريخ لا يندثر ولكن يتحول ويتبدل ويغير لون ردائه فقط.
انكشارية العصر الحديث حينما سرحت إلى الشوارع استوعبها الشارع التركي النشط الطموح التواق إلى اللحاق بأوروبا منذ عام 1808 لكن إلى الآن لم يتسن له هذا !
قطار تركيا فوق الخط الحضاري ولكن متقهقر نوعا ما عن الدخول في المجتمع الأوروبي منارة العصر الحديث, لعله الهلال والنجمة لا تعطي انطباعا ودودا لأوروبا فهي تسترجع صهيل الخيول العثمانية التي وقفت على أبواب فينا غازية.
تاريخ يظن أنه أزال سابقه وأصبح هو المهيمن الوحيد, لكن أسطنبول تخاتله وتعود لتبرز وفق أجندتها الخاصة, أتاتورك الجندي الصارم اقتحم قصر (ضولمة بهجة) واتخذه مقرا له وتوفي هناك وهو يظن أنه يلغي حقبة أو تاريخا للسلاطين, ولكن الجدران مابرحت تحتفي بالسلاطين والجواري وممرات طويلة تحمل أنين الجواري قهقاتهن وحكايتهن, ومازال أمام المسجد الأزرق يرفع الأذان مهيبا شاهقا فتوقف جميع الأغاني والمعازف حوله احتراما وإجلالا للنداء الرباني, لكن ما تلبث بعد توقف الأذان أن تعود الأغاني والمدائح النبوية والدراويش المفتونون بالحلول يلتفون نشوة ورقصا أمام كنيسة أيا صوفيا حيث هناك يلتقي الشرق والغرب في مشهد مهيب لن يكون في أي بقعة في العالم بعدما اندغم المسجد مع الكنيسة.
جسر أتاتورك وجسر محمد الفاتح يوصل آسيا بأوروبا, وهناك في ذلك المنعطف تكمن كل الحكاية علاقة تركيا الملتيسة مع تاريخها العريق وأوروبا لمتعجرفة أو كما بقول أورهان باموق (حين أشعر بغرابات أسطنبول من كل الأنواع وأشيائها القديمة.وشعرية نسيجها المتكون من أنقاض العظمة الامبريالية والتاريخ مع حزن لا مفر منه).