منذ ثلاثين عاماً وصلت مارجريت تاتشر إلى السلطة. ورغم أنّ الظروف الداخلية عجّلت بقيام ثورة تاتشر (أو ثورة تاتشر - ريغان على نطاق أوسع)، إلاّ أنّ هذه الثورة أصبحت بمثابة ماركة عالمية مشهورة لمجموعة من الأفكار التي ألهمت سياسات تحرير الأسواق من التدخل الحكومي. وبعد ثلاثة عقود من الزمان، أصبح العالم في كساد، ويعزو العديد من الناس الأزمة العالمية الحالية إلى هذه الأفكار.
كان النموذج الأنجلو أميركي للرأسمالية محكوماً عليه بالفشل. وهو يتحمل المسؤولية عن اقتراب النظام المالي العالمي من حافة الهاوية. ولكن باسترجاع ثلاثين عاماً من الأحداث، يصبح بوسعناً أن نحكم على العناصر التي ينبغي الحفاظ عليها من ثورة تاتشر، والعناصر التي ينبغي تعديلها في ضوء دورة الانحدار الاقتصادي التي يعيشها العالم اليوم.
وربما يزعم البعض أنّ الأداء الاقتصادي كان ليصبح أفضل في ظل تدخلات حكومية أقل. بيْد أنّ إيجاد سوق مثالية كاملة ليس بالاحتمال الأكثر قوة من إيجاد حكومة مثالية كاملة. وليس بين أيدينا أكثر من عقد المقارنات بين ما حدث في أوقات مختلفة. وتؤكد لنا هذه المقارنات أنّ أداء الأسواق تحت رقابة الحكومات كان أفضل من أداء الأسواق بدون رقابة من الحكومات.
ومع ذلك فإنّ الاقتصاد السياسي في عهد ما قبل تاتشر كان يمر بأزمة بحلول سبعينيات القرن العشرين. وكانت أسوأ أعراض تلك الأزمة ظهور (الركود المصحوب بالتضخم) - والذي اتسم بارتفاع معدلات التضخم والبطالة في نفس الوقت. ويبدو أنّ خللاً ما أصاب نظام الإدارة الاقتصادية الموروث عن جون ماينارد كينز.
فضلاً عن ذلك فإنّ الإنفاق الحكومي كان في ارتفاع، وأصبحت النقابات العمالية أكثر تشدداً، وأخذت السياسات المتبعة للسيطرة على نظام المدفوعات في الانهيار، وهبطت توقعات الربح إلى حد كبير. وبدا الأمر في نظر الكثيرين وكأنّ صلاحيات الحكومة أصبحت أوسع من قدراتها، وعلى ذلك فلم يكن في رأيهم بد من تعظيم قدرات الحكومة أو تقليص صلاحياتها. وفي ذلك الوقت ظهرت التاتشرية باعتبارها البديل الأكثر قبولاً لاشتراكية الدولة.
كان نايجل لوسون ثاني وزير مالية في حكومة تاتشر. ومن الجهود التي بذلتها الحكومة لمكافحة التضخم برز (مبدأ لوسون) لأول مرة في عام 1984، ثم أصبح مقبولاً لدى الحكومات والبنوك المركزية منذ ذلك الوقت. قال لوسون: (إنّ غزو التضخم لابد أن يكون هدفاً أساسياً لسياسة الاقتصاد الكلي. وتهيئة الظروف المواتية للنمو وتشغيل العمالة، لابد أن يشكِّل الهدف الأول لسياسة الاقتصاد الجزئي).
كان ذلك الاقتراح سبباً في انقلاب المفاهيم الكينزية التقليدية السابقة التي كانت تؤكد على ضرورة استهداف سياسة الاقتصاد الكلي للتشغيل الكامل للعمالة، مع ترك مسألة السيطرة على التضخم لسياسة الأجور. ولكن على الرغم من إصلاحات (جانب العرض) التي قدمتها الحكومات التي تبنّت مبادئ التاتشرية، فإنّ معدّلات البطالة كانت منذ الثمانينيات أعلى كثيراً مما كانت عليه أثناء الخمسينيات والستينيات - 7.4% في المتوسط في المملكة المتحدة، مقارنة بحوالي 1.6% فقط في العقود السابقة.
ولكن ماذا عن استهداف التضخم؟ هنا أيضاً كان السجل رديئاً منذ عام 1980، وذلك على الرغم من الضغوط الانكماشية الهائلة التي فرضتها الأجور التنافسية المنخفضة في آسيا. وكان معدل التضخم أثناء الفترة 1950-1973 ثم أثناء الفترة 1980- 2007 متماثلاً - أكثر من 3% قليلاً - بينما فشل استهداف التضخم في منع نشوء سلسلة من فقاعات الأصول التي جلبت الركود في أعقابها.
ولم تنجح السياسات التاتشرية أيضاً في تحقيق واحد من أهم أهدافها الرئيسية - تخفيض حصة الإنفاق الحكومي في الدخل الوطني. وأكثر ما يمكننا تأكيده في هذا السياق أنّ هذه السياسات نجحت في منع ارتفاع تلك الحصة لفترة من الوقت. والآن عاد الإنفاق العام إلى الارتفاع من جديد، وامتد العجز القياسي في وقت السلم الذي بلغ 10% أو أكثر من الناتج المحلي الإجمالي لعدة سنوات.
لقد تسببت ثورة تاتشر - ريغان حين عمدت إلى إلغاء التنظيمات المفروضة على أسواق المال على مستوى العالم في جلب فساد المال، من دون تحسين النمو السابق للثروات - باستثناء ثروات الأشخاص الذين كانوا الأكثر ثراءً بالفعل. بل إنّ المواطن المتوسط على مستوى العالم كان ليصبح الآن أكثر ثراءً بنسبة 20% لو كان نمو نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي قد استمر بنفس المعدل أثناء الفترة من عام 1980 إلى عام 2007 - وذلك على الرغم من معدلات النمو المرتفعة في الصين أثناء العشرين عاماً الماضية. فضلاً عن ذلك، فقد ساهم أتباع التاتشرية رغم كل مواعظهم في الانحطاط الأخلاقي الذي تمكن من الغرب حين أطلقوا العنان لسلطة المال.
في مقابل كل هذه السلبيات هناك ثلاث إيجابيات .. الإيجابية الأولى كانت التحوّل إلى الخصخصة. فبإعادة أغلب الصناعات المملوكة للدولة إلى الملكية الخاصة، نجحت ثورة تاتشر في قتل اشتراكية الدولة. وظهرت أعظم تأثيرات برنامج الخصخصة البريطاني في البلدان الشيوعية سابقاً، والتي استعارت من بريطانيا الأفكار والأساليب اللازمة لتفكيك الاقتصاد العاجز الخاضع لسيطرة الدولة .. ولابد من الحفاظ على هذا المكسب في مواجهة الأصوات الصاخبة الحالية المنادية بتأميم البنوك.
كان النجاح الثاني الذي حققته التاتشرية يتلخص في إضعاف النقابات العمالية. ذلك أنّ النقابات التي أنشئت لحماية الضعفاء في مواجهة الأقوياء، تحوّلت في السبعينيات إلى أعداء للتقدم الاقتصادي وقوة هائلة قوامها المحافظة الاجتماعية. فكان من الصواب تشجيع نوع جديد من الاقتصاد سعياً إلى الخروج من هذه القوالب الجامدة.
وأخيراً، نجحت التاتشرية في القضاء على سياسة تثبيت الأسعار والأجور سواء من جانب طرف مركزي مستبد أو عن طريق (مساومات) ثلاثية بين الحكومات، وأصحاب العمل، والنقابات العمالية. فهذه كانت السبل التي اتبعتها الفاشية والشيوعية، وهي السبل التي كانت لتؤدي في نهاية المطاف إلى تدمير الحرية الاقتصادية، بل والحرية السياسية.
* روبرت سكيدلسكي عضو مجلس اللوردات البريطاني، والأستاذ الفخري للاقتصاد السياسي بجامعة وارويك.
خاص «الجزيرة»