التورق كما يعرفه العلماء هو: (أن يشتري أحدهم سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعها نقداً بثمن أقل، ليحصل على النقد، فإن باعها إلى البائع نفسه فهي العينة المحرمة، وإن باعها إلى غيره فهو التورق). ويعرف مجمع الفقه الإسلامي التورق ب(شراء سلعة مملوكة للبائع بثمن مؤجل، وتملك المشتري للسلعة وحيازتها وبيع المشتري السلعة إلى غير البائع بثمن حاضر). وتعرف اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء التورق ب(أن تشتري سلعة بثمن مؤجل، ثم تبيعها بثمن حال على غير من اشتريتها منه بالثمن المؤجل؛ من أجل أن تنتفع بثمنها).
وهذه التعريفات رغم شموليتها ووضوحها إلا أن الخلاف حول شرعية (التورق) الذي تقدمه المصارف الإسلامية ما زال يثير الكثير من الجدل بين العلماء. ومحل الجدل عادة ما يتركز في (صيغة البيع الشرعي الصحيح)، و(آلية التطبيق) اللذين يُعتقد أن بعض المصارف الإسلامية لا تلتزم في الغالب بتطبيقهما كما يجب.
يقسم فضيلة الشيخ الدكتور يوسف الشبيلي التورق المصرفي إلى نوعين، الأول وهو (بيع التورق الحقيقي المعروف لدى الفقهاء المتقدمين)، والثاني هو: التورق المنظم، الذي يقوم على (شراء السلعة من المصرف بالأجل مع توكيله ببيعها). ويذهب الشيخ الشبيلي إلى إجازة النوع الأول بشرط (ألا يبيع العميل - المستورق - السلعة المشتراة حتى يملكها ملكاً حقيقياً ويقبضها القبض المعتبر شرعاً)، وألا يبيعها (على المصرف البائع؛ لأن ذلك من العينة). في الوقت الذي حَرَمَ فيه التورق المنظم بسبب (عدم (تحقيقه) القبض الواجب شرعاً؛ ولأنه عقد صوري، فهو حيلة على الربا).
ويفصل فضيلة الشيخ الشبيلي الفرق بين التورق الحقيقي والمنظم في قوله (في التورق المنظم لا يقبض العميلُ -المستورق- السلعة ثم يبيعها بنفسه، فليس أمامه إلا خيار واحد وهو أن يوكل المصرف ببيعها، بينما في التورق الحقيقي يكون المستورق بالخيار بين أن يحتفظ بالسلعة أو يبيعها بنفسه في السوق؛ لأنه قبضها قبضاً يتمكن به من التصرف فيها بما يشاء). وفي حكم التورق أوضحت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بأن مسألة التورق هي أن تشتري سلعة بثمن مؤجل، ثم تبيعها بثمن حال على غير من اشتريتها منه بالثمن المؤجل؛ من أجل أن تنتفع بثمنها، وهذا العمل لا بأس به عند جهور العلماء.
وذهب بعض العلماء إلى تحريم التورق المقدم من قبل المصارف الإسلامية لاشتماله على (حيلة الربا) والمطالبة بالاستعاضة عنه بعقود شرعية أخرى للخروج من الخلاف الفقهي المحتدم. الخلاف في حكم (التورق) وصل مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الذي دعا في مؤتمره الأخير المنعقد في الشارقه إلى (ضرورة إلتزام المؤسسات والمصارف الإسلامية صيغ الاستثمار والتمويل المشروعة، وتجنب الصيغ المحرمة والمشبوهة، والالتزام بالضوابط الإسلامية). فضيلة الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين، الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، كان أكثر وضوحاً في مطالبته المصارف الإسلامية بإيجاد حلول شرعية حقيقية، والاستعاضة بها عن التورق، وشدد على أن التورق الإسلامي الذي تدعيه كثير من البنوك مخالف للشريعة الإسلامية. وعد الشيخ الحصين، بحسب التقرير الذي نشرته جريدة (الشرق الأوسط) الأسبوع الماضي (التورق) بأنه (أكثر خطورة من الربا) لوجود التحايل واستغلال عاطفة الناس.
الكثير من الفتاوى، والبحوث العلمية تحدثت بإسهاب عن التورق، والمعاملات المصرفية الإسلامية، وهي تصل حد الإغراق الذي يزيد من تعقيد المسألة لا حلها. من السهل القول بتحريم (التورق) للأسباب الشرعية، خاصة فيما يتعلق بشبهة (الاحتيال) أو آلية التطبيق التي تَخِلُ غالبية المصارف الإسلامية بقواعدها الصحيحة، ولكن ماذا عسانا أن نقول لمن دخل في عقود (التورق) فتجاذبته الفتاوى بين الحل المقنن والتحريم المطلق. الفتوى التي تمس غالبية المسلمين في حاجة إلى تقنين يضمن تدارسها بين العلماء، بآرائهم المختلفة، بعيداً عن وسائل الإعلام، للوصول إلى الرأي الشرعي الذي يتوافق عليه جمهور العلماء. من السهل على العالِم معرفة مسوغات الحكم الشرعي، والآراء المتعددة فيه، إلا أن الأمر ليس كذلك بالنسبة للعامة الذين تزيدهم الفتاوى المتعددة شكا بدل اليقين!.
الأكيد أن معظم الدول الإسلامية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، متوجه نحو المصرفية الإسلامية الشاملة، ما يستدعي تحقيق التوافق الكلي في الفتوى ذات العلاقة بالمنتجات المصرفية الحديثة.
تركز المصارف على عقود التورق لسهولة تطبيقها، ولتوافقها مع احتياجات قطاع الأفراد والشركات على حد سواء، وتحجم عن الدخول في البيوع الأخرى الأكثر تعقيداً، ربما لقلة خبرة العاملين فيها، أو احتياجها لكثير من الجهد والمتابعة، وهذا لا يُعفيها من مسؤولية التركيز على صيغة تمويل واحدة مقابل بدائل أخرى متوفرة في فقه المعاملات، وتخلو من الخلاف الفقهي الذي بات محيطا ب (التورق). هدف تحول القطاع المصرفي السعودي إلى المصرفية الإسلامية لا يمكن تحقيقه ما لم يتفق العلماء على صيغ التمويل والاستثمار المجازة شرعاً. اختلاف العلماء يمكن أن يقود إلى نزع الثقة من المصرفية الإسلامية، ويمكن أن يحمل ضعاف النفوس على التشكيك في فقه بعض علمائنا الأجلاء، أو في ذمة الهيئات الشرعية المتخصصة، والعياذ بالله.
يجب أن لا تقف المصارف الإسلامية عند بيوع (التورق) بل يفترض أن تجتهد في البحث عن صيغ أخرى تعيد من خلالها ثقة المقترضين في منتجاتها المتطابقة مع متطلبات الشريعة الإسلامية، والبعيدة عن إختلاف العلماء. أما الهيئات الشرعية، ومراكز الفتوى فيفترض أن تتعامل مع مثل هذه المسألة الحساسة بكثير من الحكمة خاصة وأن معظم الشعب السعودي، والشعوب الإسلامية الأخرى قد دخلوا في عقود (التورق) الإسلامية، التي شكك في شرعيتها بعض العلماء الثقات، ما قد يدخلهم في دوامة الشك، والخوف من تلوث أموالهم بالحرام.
أتمنى أن تسعى الحكومة السعودية إلى إنشاء بورصة للبضائع الحاضرة في سوق المال السعودية يمكن أن تعتمد عليها المصارف في تنفيذ عقود التمويل الإسلامية، وتمكن عملائها المتورقين من حيازة بضائعهم من خلال الأوراق المالية التي تودع لحساباتهم الخاصة في البورصة، ومن ثم يقومون باستلامها، أو بيعها مباشرة في السوق، لأطراف أخرى لا علاقة لها بالمصرف، وبطريقة إلكترونية كما يحدث حالياً في سوق الأسهم. بورصة البضائع الحاضرة المنفصلة عن المصارف قد تقضي على غالبية الشبهات المحيطة ببيوع (التورق)، وتُعيدها إلى دائرة (التورق الحقيقي) المعروف لدى الفقهاء المتقدمين، بإسلوب تقني حديث.
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM