صرخ ولدي الصغير في وجهي غاضباً، أرعد وأزبد، واشتد صراخه وعلا صوته ولم تكن هذه عادته ولكنه كان منفعلاً حينها جراء عدم شراء ما يريد، كان بجواري الابن الأكبر والذي يدرس في المرحلة المتوسطة، فقال لي بكل تلقائية وبساطة (عالجه أبي بالمسامير) سألته وما هي حكاية المسامير هذه، وقد دار في خلدي أنه نوع من العلاج الشعبي المعروف، فقال: هذه حكاية جميلة ذات دلالة عميقة، تقول هذه القصة بإيجاز: كان هناك طفل يصعب إرضاؤه، وكلما كبر زادت المشكلة وتعقدت، وقد شعر والده بخطر هذا الأمر على ولده الذي يحب ويتمنى أن يكون أفضل من كل الأطفال، حاول أن يجد حلاً لهذا السلوك المشين ويربيه على قوة ضبط النفس والتحكم بالأعصاب، أعطاه هذا الأب الفطن كيساً مليئاً بالمسامير وقال له: قم ولدي العزيز بطرق مسمار واحد في سور الحديقة في كل مرة تفقد فيها أعصابك أو تختلف مع أحد.. كان يرقبه عن قرب ويتابعه لحظة بلحظة، في اليوم الأول قام الولد بطرق سبعة وثلاثين مسماراً في سور الحديقة لأنه ما زال في أول مراحل التطبيق، ومع مرور الأيام تعلم الولد كيف يتحكم في نفسه ويضبط أعصابه حتى يتخلص من هذا العمل الشاق، ولذا كان عدد المسامير التي تطرق يومياً ينخفض بالتدريج حتى وصلت به الحال إلى نقطة الصفر، اكتشف الولد أنه تعلم كيف يتحكم في نفسه بسهولة، كان ضبط النفس أسهل عنده من الطرق على سور الحديقة المرهق والمحرج، في اليوم الذي لم يطرق فيه الولد أي مسمار في سور الحديقة ذهب ليخبر والده أنه لم يعد بحاجة إلى أن يطرق أي مسمار، قال له والده الذي كان قريباً منه ويتابع هذا الإنجاز التربوي الرائع: الآن قم بخلع مسمار واحد عن كل يوم يمر بك دون أن تفقد أعصابك، مرت عدة أيام وأخيراً تمكن الولد من إبلاغ والده أنه قد قام بخلع كل المسامير من السور، قام الوالد بأخذ ابنه إلى السور وقال له: (بني قد أحسنت التصرف, ولكن انظر إلى هذه الثقوب التي تركتها في السور لن تعود أبداً كما كانت، بني عندما تحدث بينك وبين الآخرين مشادة أو اختلاف وتخرج منك بعض الكلمات السيئة, فأنت تتركهم بجرح في أعماقهم كتلك الثقوب التي تراها، أنت تستطيع أن تطعن الشخص ثم تخرج السكين من جوفه ولكنك حين تخرجها جزماً ستكون قد تركت أثراً لجرح غائر في النفس، لهذا لا يهم كم من المرات قد تأسفت وبأي لغة وخطاب تكلمت لأن الجرح لا زال موجوداً، ولتعلم بني أن جرح اللسان أقوى من جرح الأبدان).. أصدقكم القول شعرت وأنا أستمع لهذه القصة أننا نحن الكبار أحق من أولادنا الصغار بهذه الوصفة التربوية المهمة، إننا كثيراً ما نفقد أعصابنا ويعلو صوتنا لأسباب قد تكون واهية أو حتى مقنعة خاصة في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر علينا سواء في ميدان العمل أو حين نكون وسط الزحام أو عندما نرى تصرفاً مشيناً يصدر عن أحد الصغار أو في علاقتنا مع زوجاتنا والعاملين معنا أو...، والتأسف مع أنه مهم ويدل على سلامة الصدر إلا أنه كما قال الأب: (لن يزيل الجرح ولن يعيد سور الحديقة كما كان)، ليسأل كل منا نفسه: كم مسمار سيطرق على عتبة بابه يومياً لو أراد أن يطبق هذا المثال، وكم جرح غائر في نفوس من حولنا لم تستطع كلامات الاعتذار أن تزيله فتعود تلك النفوس المحبة كما كانت، بل كم أسرة تفككت بسبب لحظة انفعال لم تجد العقل الراشد!!، نعم إن إيقاع الأحداث وسرعة عجلة الزمن وكثرة المشاغل والظروف الصعبة التي قد تمر بأي منا وغير ذلك كثير قد تفقد الإنسان أعصابه ولكن الخاسر الأول والأخير هو من فقد أعصابه سواء نفسياً أو صحياً أو اجتماعياً، ولذا جاء الأمر الرباني بالرفق، وكان من توجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تغضب وكررها مراراً لا تغضب) والتكرار هنا فيه دلالة على أن الأمر يحتاج إلى تدريب وطول مران، ومع أن هناك من يقول من الصعب أن تغير الطبع، إلا أن الصحيح خلاف ذلك، فالطبائع المركوزة في النفس والجبلة التي خلق عليها الإنسان تقبل التهذيب والتغيير الجذري، ولذا جاء الأمر بالتربية والتدريب السلوكي لعلاج مثل هذه الحالات واعتبرت الأخلاق والمعاملة من الدين بل هي سر بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنا أعرف بعض الزملاء كانت لديهم سلوكيات مشينة استطاعوا التخلص منها بالتدريب الطويل، وقد سألت طلابي في يوم ما، هذا السؤال الثلاثي: ترى من منكم استطاع أن يعرف ما هي الصفة الخلقية التي لا تعجبه في نفسه، وهل حاول أن يتخلص منها، وإلى أين وصل في مراحل العلاج؟.. اسأل نفسك هذا السؤال وكن صريحاً في الإجابة، وأتمنى ألا تكون بحاجة إلى المسامير وإلى لقاء والسلام.