وإذ تكون كل حضارة سلفت تمد بسبب إلى ما خلف من حضارات متأكداً بذلك عدم براءة أي حضارة من تمثل الإرث الإنساني، فإنه بالإمكان استثمار القواسم المشتركة بين الحضارات والمذاهب والتيارات.
وبهذا تتحقق تنمية الائتلاف وإن كان ثمة إشكالية فإنها كامنة في المتمردين على حضارة الانتماء، ومهادنة مثل هؤلاء يعني المواطأة على قتل الحضارة وتمكين الخطاب الغربي المتعالي من الهيمنة الحسية والمعنوية، وليس شرطاً أن تكون المواجهة بالصدام وتنازع البقاء، ولو نظر المتابع إلى تخبيصات (العلمانيين) في النص القرآني بوصفه حبل الله المعتصم به لراعته الجرأة، وكيف يسوغ لعاقل قبول أنسنة القرآن وتدنيس قداسته وإجهاض دلالته عند (أركون) و(أبي زيد) و(علي حرب) و(طيب تيزيني). وكل أولئك وآخرون من دونهم لا يعلمهم إلا الراصدون الناصحون لعقيدتهم يمارسون بجرأة ووقاحة نقد النص ونزع سلطانه وأنسنته، أو يدعون إلى ذلك أو يشرعنون له أو يواطئون من يمارسون هذا الانحراف العقدي البين عوره، ومنشأ ذلك كل الجهل بنواقض الإيمان وضعف التأسيس المعرفي والاستخفاف بأهمية الهوية والتصور الخاطئ بتعذر إمكانية تعايش الثقافات وحوار الحضارات.
وفوق ذلك كله التقليد ل(الأوروبيين) في عصور التنوير والإصلاح الذين لم يحققوا التطور المعرفي والفكري إلا حينما أخضعوا نصوصهم المحرفة للنقد، ومن الصعوبة بمكان التحكم بإدارة الاختلاف في مثل هذه الظروف. ولكن لا يأس مع الإصرار، ولاستبانة الفداحة وعمق المأساة فإن على المرتاب أن يقرأ أمشاجاً من كتب أوغلت في الخطيئة ولم تراعِ مشاعر المسلمين الذين يعرفونك حدود ما أنزل الله ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
(مفهوم النص) (نقد النص) (سلطة النص) وهي كتب لا تنقصها المعرفة ولا المنهجية، ولكنها تتوسل بهذه الإمكانات لإجهاض المقتضيات الدلالية بالتأويل الفاسد والتفكيك المحيل؛ سعياً وراء الخلوص من نفاذ النص المشروع، كما تخلص عصر التنوير الأوروبي ب(الهرمنيوطيقا) من نصوصه المقدسة المحرفة، واختلاف كهذا يستحيل معه الظفر بإدارة محكمة توافقية، ذلك أنه يمس جوهر القضايا، وحاجة الأمة في مثل هذه الظروف أن تحرر مسائلها وأن تؤسس لمعارفها وأن تحقق هويتها، إذ ليس كل اختلاف قابلاً للتصالح والتعاذر والتعايش، وإذا أمكن التعايش بين الحضارات فإن للحضارة الواحدة حدوداً لا يمكن تجاوزها، والتطلع إلى ترشيد الاختلاف يتطلب الاتفاق على الثوابت والأصول والمرجعية؛ إذ لا مجال لمن يريد طمس معالم الحضارة والذوبان في الآخر، ولاسيما أنه بالإمكان التوفر على متطلبات الحياة الكريمة والتمسك بمحققات حضارة الانتماء، فالإسلام سبق كل الحضارات المهيمنة وهيأ لها الإمكانات العلمية والعقلية.
والخطاب (العلماني) الفكري عوّل على (التأويل) بوصفه مصطلحاً تراثياً توسّل به أهل الملل والأهواء والخل للخلوص من ظاهر النص إلى باطنه، غير أنهم بهذا الإيغال غير السوي أبعدوا النجعة، ولقد أضلتهم مقولات انطلقت من عباءة التأويل بحيث أنكروا ثبات المعاني وعززوا مقولة: (لا نهائية المعنى) بوصفها وليدة الفكر التفكيكي، ولأن إجهاض النص سبيل من سبل العلمنة فقد جاءت (التاريخانية) و(نظام العقل) بوصفه بديلاً (لنظام الخطاب) ليقطعا الصلة بالنص وسلطته المشروعة. والوسطيون الذين راعهم هذا الإيغال المريب في الهلكة حاولوا تجسير الفجوات والاحتفاظ بأقل قدر من حرفة النص، وهذه الفئة متفاوتة في الدركات، وجماع أمر هؤلاء في تحرير مصطلح (المقاصد)، ولقد أشار المفكر العربي (رضوان السيد) في بعض أحاديثه (المتلفزة) إلى هذا التوسع الملفت للنظر في شأن (المقاصد) وذكر أنه تم إحصاء أكثر من مائة وعشرين كتاباً في (المقاصد) وأكثر من خمسة آلاف مقال ودراسة.
وهذا التفكير التوفيقي جاء لمحاصرة فكرة الشمولية في الشريعة الإسلامية؛ وهي فكرة أثقلت كاهل المتعصرنين، وضيّقت الخناق عليهم، فالشمولية والعالمية شبحان مخيفان لكافة المستويات العلمانية، وكان أول من أصَّل للشمولية الإمام الشافعي -رحمه الله- في كتابه (الرسالة) بوصفه رائد الأصولية الفقهية، وممن تصدى لهذه الرؤية وسخر منها واستهجنها (نصر حامد أبوزيد) في كتابه الضجة (الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجيا الوسطية) على أن هناك بعض الاختلاف الأصولي بدت بوادره في بواكير الحضارة الإسلامية ولكنه اختلاف منطقي ومعقول.
والذين كتبوا عن مصطلح (المقاصد) متفاوتون في نوازعهم ومآلاتهم، ولقد كانت لي اهتمامات مبكرة لهذه الظاهرة وبودي لو ساعد الجهد والوقت على تناول شيء من هذه الأعمال التي يأتي جلها دراسات أكاديمية في أقسام الفقه وأصوله وبخاصة الذين يتناولون المقاصد عند الأصوليين مثل: (مقاصدية التشريع الإسلامي.. آراء القاضي أبي بكر بن العربي نموذجاً) و(الفقه المقاصدي عند الإمام الشاطبي وأثره على مباحث أصول التشريع الإسلامي) و(المقاصد العامة للشريعة الإسلامية) و(مقاصد الشريعة عند ابن تيمية) ولربما كان (الطاهر بن عاشور) من أوائل من تناول المقاصد ولهذا أصبح كتابه منطلقاً لكل من تناول المقاصد، على أن الذين تناولوها لإجهاض سلطة النص لم يكونوا من هذا الصنف وبخاصة الذين أرخوا للمصطلح أو تناولوه لقصد التقريب والإيضاح، وعلى أية حال فالمصطلح اتخذ وسيلة لرأب الصدع والخلوص من معاضلة النوازل ومحاولة التقريب بين الإسلام والمذاهب المعاصرة السياسية والاقتصادية وسائر متطلبات الحكومة المدنية.
وبواكير الاختلاف الأصولي الذي أشرنا إليه ووصفناه بالمعقولية والمنطقية تمثل في الدراية عند الأصناف والرواية عند الحنابلة وفي النصوصية الحرفية عند الظاهرية والتأويلية عند من توسعوا في فقه الرأي، ولم يكن ثمة صدام ولا تعدد في المرجعية على أن المشهد استوعب هذه الخطابات وأسهم في تخصيبها، وهو ما لم تقدر عليه المشاهد المعاصرة لإبعاد النجعة وتعدد المرجعيات والخنوع للآخر، وإدارة الاختلاف لحسابه.
والذين طرحوا مشروع الحوار على مختلف الصعد السياسية والفكرية والدينية لا أحسبهم يجهلون الممكن والمستحيل، بل أظنهم على علم بالمباح غير الممكن، وكل حوار غير متكافئ وغير منضبط لن يؤدي في النهاية إلا إلى مزيد من الفرقة ومقتضى قوله تعالى: {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءَ}، العدل والنصف، ولكنها لم تطلق بلا قيد تتحقق من خلاله مقتضيات الحضارة؛ إذ حدد العدل والنصف بقوله تعالى: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}، في حين أن النصارى يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، ولتحقيق شروط الحوار المطلوب جاء قوله تعالى: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ}، ولقد فسرها (ابن جريج) بقوله: (لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله) وعند الاختلاف لا مناص من القول:
{اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، فإدارة الاختلاف لا
تتحقق إلا إذا ضمن المحاور التوفر على محققات حضارته، وإشكالية المشاهد أن عدداً من المفكرين يرون الانصياع للآخر والارتماء في أحضانه هي محققات الحوار الحضاري، وليس هناك ما يمنع من التعايش والتعاذر وتبادل المصالح متى تعذر الحوار الإيجابي، فالصدام نزوع ذاتي وليس مقتضى كما يتوهم (صامويل هنتنجتون) في كتابه (صدام الحضارات.. إعادة صنع النظام العالمي) ولهذا فند (هارالد موللر) تلك المزاعم الخاطئة في كتابه (تعايش الثقافات.. مشروع مضاد لهنتنجتون) ولكن هل ثمة حاجة إلى التكافؤ والندية عند ضمان التخطي بالحوار وإدارة الاختلاف إلى بر الأمان؟
يتبع.