قال لي صاحبي: حاورتُ صديقاً لي في لقاءٍ جمعني به بعد فراقٍ دام سنوات، فرّقتنا فيها الدراسة، حيث درس هو في بريطانيا، ودرست أنا في أمريكا، ثم قدَّر الله أن التقي به في الرياض على غير ميعادٍ بيننا، وبعد أن هدأت عواطفنا المعبِّرة عن فرحة اللقاء، جرى بيننا حوار ثقافي حول عدد من القضايا الثقافية المطروحة على الساحة، فكانت المفاجأة التي أصابتني بالذهول، لقد أصبحت - حينها - أشعر أنني أمام شخصٍ آخر، يختلف اختلافاً كبيراً عن صاحبي الذي أعرف، حتى كأنما قد سكن في جسده عقل آخر، وروح أخرى، وخرج من هذا الجسد الذي يجلس أمامي ذلك العقل الذي أعرف، وتلك الروح التي كنت على تآلفٍ مع صاحبها.
|
قلت لصاحبي: لعلك قد بالغت في النظر إلى حالة صديقك، ولربما رأيت تطوُّراً فكرياً ثقافياً طبيعياً لا بدَّ من حدوثه مع الدراسة والسفر، والاطلاع على ثقافاتٍ أخرى، فظننت هذا التطوُّر تغيُّراً واختلافاً جذرياً أصابك بالمفاجأة التي ذكرت.
|
قال صاحبي: هوِّن عليك، فليس الأمر كما ذكرت، ولا تنس أنني درست أنا أيضاً في أمريكا، وتنوَّعتْ ثقافتي، واطّلعت على أفكارٍ وثقافاتٍ أخرى، ورأيت أنماطاً من البشر عجيبة غريبة، ولكنني - بفضل الله - لم انجرف عن أصول فكري وثقافتي كما انجرف عنها صديقي، ولم أتنكّر لقيمي وسلوك مجتمعي كما تنكَّر لها.
|
قلت: مادام الأمر بهذه الصورة التي ذكرت، فماذا رأيت من معالم الاختلاف ومظاهر التغيُّر.
|
قال: فوجئت بصديقي يتحدّث عن حرِّية العقيدة بالنسبة للإنسان المسلم، وأنّ من حقه أن يتحوّل إلى الدِّين الذي يريد دون أن نُهدِّده بحدِّ الرِّدَّة الذي يصادر هذه الحرية، وفوجئت به يستنكر ظواهر الحشمة والحياء عند المرأة المسلمة، ويرى أنها ظواهر تخلُّف في عصر أصبحت فيه الحرية شعاراً يرفعه المثقفون المستنيرون الذين تخلَّصوا من عُقد القيم والمبادئ والعادات والتقاليد.
|
وفوجئت به يقتنع بأنّ العبادة من صلاة وصوم وغيرها عمل شخصي يقوم به الإنسان إذا آمن به واقتنع، فلماذا نفرضه على عامَّةِ الناس؟ ولماذا نجعل (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وسيلة من وسائل الضغط على مشاعر الناس ومصادرة حرِّياتهم، وقسْ على ذلك أموراً أخرى فاجأني بها صديقي، مع أنه قبل سفره كان ذا التزام واستقامةٍ على أمور الدين كان فيها مضرباً للمثل بين زملائه فما رأيك في هذا، وما السبب يا ترى؟
|
قلت: أمّا إذا كان الأمر على ما أوضحت فهي شطحات كبيرة أسأل الله عزّ وجل أن يعافي صديقك منها، وأن بهديه إلى طريق الصواب، وأمّا السبب فهو إيغاله في ثقافات وأفكار الآخرين، قبل أن يرسخ قدمه في ثقافة أُمّته ودينه، نعم كان ملتزماً، ولكنه - كما أظن - لم يكن على صلةٍ بالثقافة الإسلامية الواعية التي تملأ الفكر، وتفتح الآفاق الرّحبة للعلم والمعرفة على ضوءٍ من شرع الله، ربما كان ملتزماً بالعادة كما هو شأن الكثير من شبابنا، لكنه لم يكن يحظى بتوعيةٍ وتربيةٍ شرعية تضع قدمه على أسلم طرق التعامل مع أفكار وثقافات الآخرين، ولذلك أصبح عرضة للتغيُّر حينما هبَّت عليه رياح الثقافة العالمية بما لم يعهد من الأفكار، مع ما فيها من تلبية للرغباتِ والشهوات والأهواء.
|
أمّا ثباتك أنت يا صاحبي فهو فضلٌ من الله عليك، ثم إنك - كما أخبرتني - قد حظيت برفقة صالحةٍ هناك سبقتك في الخبرة والتجربة فكانت حاجزاً بينك وبين الانجراف، والانبهار بالبريق.
|
إنّها مسؤولية تربوية كبرى يجب ألاّ يفرِّط فيها الآباء والأمهات والمربُّون، والجهات المسؤولة عن الابتعاث.
|
|
يا بني الإسلام أنتم قوَّة |
تمسح الجرح وتمحو التعبا |
|