تأتي رعاية خادم الحرمين الشريفين لدراسة الأمن الفكري، الذي تبنته جامعة الملك سعود ممثلة في كرسي الأمير نايف بن عبدالعزيز، في سياق اهتمامه - حفظه الله - بتعزيز معاني الوسطية والاعتدال، وتنمية قيم التسامح الديني، ونشر ثقافة الحوار ونبذ العنف، ووضع ملامح الاستراتيجية الوطنية للأمن الفكري.
إنَّ الحفاظ على المكونات الثقافية الأصلية في مواجهة التيارات الثقافية الوافدة - أياً كانت - هو أمن فكري، يهدف إلى حماية وتحصين الهوية الثقافية من الاختراق، وصيانتها من الانحراف. وبعبارة أخرى، فإن استقرار حياة الإنسان، وسلامة سلوكه ومقصده من خلال فهمه للإسلام، وتصوّره للحياة والهدف منها، وعلاقته بربه وبالآخرين، ومعرفة ما له من حقوق وما عليه من واجبات هو الأمن الفكري.
ويعتبر الأمن الفكري من أهم أنواع الأمن بمفهومه الشامل؛ فبه يعيش الناس في أوطانهم آمنين على مكونات أصالتهم، وثقافتهم النوعية، ومنظومتهم الفكرية المنبثقة من عقيدتهم وهويتهم وثقافتهم داخل مجتمعهم. ولقد حرصت الشريعة الإسلامية على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، بل إن مدارها على تلك القاعدة العظيمة، فما أمرت الشريعة الإسلامية بشيء، أو أباحته إلا وفيه مصلحة محققة، أو راجحة على مفسدة مرجوحة. ولا نهت عن شيء، أو منعته إلا وفيه مفسدة محققة، أو راجحة على مصلحة مرجوحة. وبهذه المعادلة المترابطة تتضح ملامح الأمن الفكري.
إنّ الأمن الفكري يقتضي تحصين أبناء المجتمع من فكر وافد؛ فليس أضر على الأمة من رواج فكر دخيل، يبلبل العقول ويوحش القلوب، على أيدي جهلة وأنصاف متعلمين. ولقد قيل مراراً: إن الفكر لا يعالج إلا بفكر؛ لذا لا بد من الاعتراف بوجود الأفكار الدخيلة - أيا كانت - كظاهرة، ومعرفة حجم الظاهرة وآثارها، حتى ننادي بعد ذلك بمشروع جماعي وطني يخاطب الفكر ولا يسفهه؛ لأن المطلوب هو حلحلة تلك الأفكار وتعريتها، متجاوزين الوسائل التقليدية في التوعية والعلاج.
إنّ تحصين أبنائنا ضد خطر الأفكار الدخيلة، وإشاعة فكر الوسطية والاعتدال في المشاعر والتصرفات والسلوكيات، وتعزيز روح الانتماء الوطني المتوافق مع شريعتنا الغراء، يسهم - بلا شك - في تكوين ثقافة أمنية وتربوية وفكرية لدى الطلاب من الداخل، ويخلق جيلاً واعياً مدركاً لما يحيط به من تحديات ومخاطر. وهو منهج قرآني دلّ عليه قول الله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} فاستبانة سبيل المجرمين لاجتنابها كانت سبباً لتفصيل الآيات حولهم، كما أن فضح المنافقين في القرآن الكريم وخصوصا في سورة التوبة كان من أجل تحذير المسلمين من سلوك مسالكهم.
وإذا كان التطرف مرفوضاً، فالغلو كالجفاء نمطان بعيدان عن الوسطية والاعتدال اللذين دعانا إليهما الإسلام بنص قول الله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}. وهذا يقتضي الاعتدال في العقيدة والسلوك، والاعتزاز بهذه الوسطية البعيدة كل البُعد عن تيار متشدد يرفض كل جديد، وتيار تغريبي يرفض الدين.
أهم ما يمكن إضافته فيما تبقى من مساحة أن الحوار يخدم القضايا الإنسانية المشتركة ولا شك، وهو أقرب وسيلة لتقريب وجهات النظر، وتوضيح المواقف، كما يسعى إلى تأسيس العلاقات الإنسانية من خلال التركيز على القواسم المشتركة وتعميقها وتحقيقها وحمايتها. ولست مبالغاً حينما أفصح بأن الإسلام دين الحوار، وهو سنة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وهو مشروع الأمة وعنوان خيريتها. فكم نحن بحاجة إلى فتح أبواب الحوار المنظم، وتنشئة أجيال تؤمن بالحوار، وتحترم الآخر وحقوقه.
إنّ الأمن الفكري في نهاية المطاف مسؤولية الجميع، ونحن مدعوون إلى التحرك السريع الفاعل الإيجابي، ووضع خطط قائمة على أسس علمية وتربوية لحماية أمننا الفكري، سواء كان وقائياً أو علاجياً، وهذا هو التحدي الأهم.
drsasq@gmail.com