قبل ست سنوات كتبت مقالة بعنوان: (هذا هو العصر الصهيوني) ومما ذكرته في تلك المقالة أن البشرية مرَّت بفترات تاريخية سميت عصوراً، ونسب كل عصر منها إلى القوة المهيمنة على مسيرة الأحداث في أهم بلدان العالم في ذلك العصر، أو في البلدان المؤثرة
في تلك المسيرة بشكل واضح جلي، وجوانب هذا التأثير وتلك الهيمنة يعضد بعضها بعضاً في كثيرٍ من الأحيان، فالهيمنة السياسية - مثلاً - تعضد الهيمنة الاقتصادية، والقوة الاقتصادية تقوي النفوذ السياسي، وهكذا.
ومن قرأ التاريخ قراءة متأنية فاحصة يجد أن اليهود ببراعة شيطانية الهدف والأسلوب قد بدؤوا جهودهم المكثفة الماكرة لإيجاد نفوذ لهم على العالم منذ زمن بعيد، ولأنهم عاشوا فترات طويلة مشتَّتين في بلدان كثيرة فإنهم نهجوا نهجاً ذكياً للوصول إلى مراميهم وأهدافهم، سواء تحققت كلها أو تحقق النصيب الأوفر منها، وكان من هذه الجهود بث مبادئ الماسونية، التي راقت لعددٍ من ذوي المكانة السياسية والاجتماعية في أقطار الدنيا، وبخاصة الأقطار المتقدمة علمياً واقتصادياً، مثل أوروبا - بعد الثورة الصناعية - وأمريكا الشمالية.
ثم نشطوا على مسرح الأحداث بترسيخ فكرة الصهيونية، التي لم يقتصر اعتناقها على فئات كثيرة منهم فحسب، بل امتدت إلى فئات من غيرهم، ذلك أنه أيَّدها واعتنقها فئة لا يُستهان بها، عدداً ومكانةً، من المسيحيين، وأصبحت كل من الماسونية والصهيونية تكمل الواحدة منهما الأخرى.
ومن تأمَّل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية بالذات يجد أن كثيراً من الأوروبيين الأوائل، الذين استقر بهم المقام في أرض القارة الأمريكية، كانوا من المسيحيين الذين تغلغلت في نفوس كثيرٍ منهم المبادئ الصهيونية، كما يجد أن عدداً غير قليل من ذوي النفوذ، بمن فيهم رؤساء تلك الدولة، كانوا ممن اعتنق الماسونية وأيدها، وربما كانت نسبة المتصهينين المسيحيين تفوق عدد اليهود في العالم، وربما كانت نسبة ذوي النفوذ منهم في أوروبا أقلَّ من نظرائهم أصحاب النفوذ في أمريكا لكن يظل تصهينهم واضحاً ومؤثراً.
كانت نوايا الصهاينة الشيطانية تجاه فلسطين بالذات تعتمل في نفوسهم قروناً وقروناً، لكن ظهور بوادر نجاحهم في مساعيهم لتنفيذ ما كانوا ينوون تنفيذه من اغتصاب لذلك البلد العربي الإسلامي، تم، ابتداءً من الحرب العالمية الأولى، ذلك أنهم نجحوا - خلال تلك الحرب- في الحصول على وعد بلفور المشهور، الذي تضمَّن بين ما تضمَّن الوعد بالعمل على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، صحيح أن إشارات من زعماء غربيين تبيِّن تأييدهم للصهاينة في إقامة كيان لهم على الأرض الفلسطينية قد ظهرت من قبل وعد بلفور بكثير، ومن ذلك أن الرئيس الأمريكي، جون آدمز، قد نادى - عام 1818م- بإقامة دولة يهودية في فلسطين، وأن نابليون قد عرض على اليهود التعاون فيما بينه وبينهم كي يقيموا لهم كياناً هناك قبل مناداة الرئيس الأمريكي، غير أن وعد بلفور كانت له أهميته الكبرى، ذلك أن اليهود قد أفلحوا بعد هذا الوعد في تحقيق أمرين مهمين، أولهما أن بريطانيا - من سوء حظ أمتنا بعامة والفلسطينيين بخاصة - أصبحت الدولة المنتدبة على فلسطين، ولأنها لم تكن تضمر للمسلمين، ولا سيما العرب منهم، إلا كرهاً عينت أول مندوب لها على ذلك البلد المبارك حول مسجده الأقصى رجلاً صهيونياً اسمه صموئيل. وكان لهذا ما له من أهمية في تمهيد كل السبل أمام الصهاينة لوضع ما خططوا له موضع التنفيذ، وثاني الأمرين المهمّين أن الرئيس الأمريكي، ويلسون، صاحب المبادئ المشهورة أيَّد ذلك الوعد بعد شهور فقط من صدوره، والتزم بمساعدة الصهاينة على تحقيق مقتضياته، وهو في هذا الموقف يتناقض مع المبادئ المشهورة العظيمة في كلماتها تناقضاً واضحاً، وإضافة إلى ذلك فإن أمريكا بعد الحرب العالمية الأولى قد أصبحت قوة عالمية يُحسب لها ألف حساب، وهي الآن سيِّدة دول العالم، شاء من شاء أو أبى من أبى، ولهذا كثف الصهاينة جهودهم للهيمنة على مراكز القوة في تلك البلاد، اقتصادياً وإعلامياً وصناعة سينمائية، فنجحوا في مساعيهم نجاحاً عظيماً، ومواقف الإدارات الأمريكية المتصهينة في أغلبها معروفة لدى الكثيرين، والحديث عنها، أو عن بعض منها، يطول ويطول.
على أني أود أن أقول، هنا، إن المتأمل في أحداث الماضي والحاضر يرى أن مواقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة لا تختلف من حيث الجوهر اختلافاً مؤثراً، سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية، تماماً كما لا تختلف سياسة الزعماء الصهاينة من حيث الجوهر مهما بدا من اختلاف، أحياناً، في تصريحات أولئك الزعماء، ولذلك فإني لست مع المتفائلين بأن الإدارة الأمريكية الحالية تتبنى موقفاً عادلاً تجاه قضايا أمتنا، وعلى رأسها قضية فلسطين، أهم موظف من موظفي البيت الأبيض، وأعظمهم نفوذاً ومكانةً - كما يقال - عند الرئيس الأمريكي صهيوني ما زال أبوه يعيش في فلسطين المحتلة، ويصوِّت مع من يصوِّتون لانتخاب الزعامات الصهيونية التي تفتك بالفلسطينيين، تماماً كما هي الحال بالنسبة للبابا، الذي قدم إلى فلسطين المحتلة هذه الأيام، ولوّح من لوَّح بأنه كان في صباه من شبيبة هتلر، ومن تابع مجريات زيارته لتلك البلاد المقدسة يتضح له، أو لابد أن يسأل، ما إذا كان هناك شيء مما لوَّح به قاده إلى أن يفعل ما فعل ويقول ما يقول في زيارته، من بين ما فعله البابا هناك زيارة أسرة الجندي الصهيوني، الذي كان أداة قتل للفلسطينيين وتنكيل بهم، فأسر كما يؤسر، أحياناً، أيُّ مقاتل في جيش من الجيوش، ناهيك عن أن يكون هذا الجيش إجرامي النزعة والتصرُّف، لكن البابا لم يشر مجرد إشارة إلى أكثر من اثني عشر ألف سجين فلسطيني بينهم أعضاء في برلمان منتخب انتخاباً حراً نزيهاً، ونساء، وأطفال، والبابا لم يدّخر وسعاً في تمجيد اليهود وتقديسه لتراثهم، كما لم يدّخر وسعاً في تعبيره عن أساه لما حدث لهم من مآسٍ ونكبات لكنه لم يقل كلمة واحدة عما ارتكبه الصهاينة من جرائم في حق الفلسطينيين، وآخرها جريمة مجزرة غزة الرهيبة، التي لم تجف دماء ضحاياها بعد، وإنما راح يحث على معارضة أيِّ توجه للمقاومة الفلسطينية المشروعة العادلة.
ربما كان الرئيس الأمريكي السابق واضحاً كل الوضوح في إعلان موقف معادٍ للمسلمين مبني على أساس ديني، وفي ممارسته للعمل ضدهم، لكن ما يعلن في هذه الأيام من ألفاظ قد يبدو في بعضها أنه معقولة لن يؤثِّر في الموقف الأمريكي المتأصل الاستراتيجي، وهو الموقف المنحاز للكيان الصهيوني.
والحديث عن وجوب قيام دولتين في فلسطين حديث غريب عجيب تدل كل الوقائع على أنه كلام يطير في الهواء، الواقع المشاهد هو أن دولة صهيونية محتلة تتوسع يوماً بعد آخر، بل ساعة وراء أخرى، وأن سلطة يراد لها أن تكون دولة - في أحسن الأحوال - تنقص أراضيها يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة. التهويد، أرضاً وحضارة، قائم على قدم وساق، والقدس، التي هي قلب القضية الفلسطينية لم يبق من تهويدها إلا القليل الذي هو في طريقه إلى التنفيذ. أين ستكون هناك دولة فلسطينية؟ كاتب هذه السطور بين من لا يدرون.
على اني بعد قول ما سبق قوله أؤمن كل الإيمان أن أعداء أمتنا بعضهم أولياء بعض، وأنهم لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة، والنادر من غير المسلمين، نصارى أو يهوداً، ممن يقولون الحق، ويقفون مواقف عادلة ليس لهم في مجتمعاتهم ما للصهاينة والمتصهينين من أمر مؤثر، كل ما يجري الآن على الساحة الدولية، بعيد كل البعد عن الحدِّ من نفوذ هؤلاء الأعداء.
ولذلك كله يبرز سؤال واضح يبدو صحيحاً: ألسنا في عصر صهيوني؟