في مجلس الشيخ أبي فرناس وهو أمير قرية صغيرة نائية، تساءل بعض الحضور: يا شيخ لماذا تأخرت بمهاتفة الإطفاء عندما شب الحريق في دكان سليّم، وانتظرتَ النيران تمتد إلى كافة البيوت المهجورة؟
قال: شوفوا يا عيالي، قريتنا ما أحد يعرفها، وهذه البيوت خاوية خربة، ومن غد كل الصحف كتبت عن قرية تحترق بمنازلها، بينما لا أحد تضرر، وصار لقريتنا أهمية.. يعني لو الخبر حريق في دكان لم يُسمع بنا..
هذه القصة (بالاسم المستعار لبطلها) تذكرتها في الأيام الأولى من حمى الإعلام حول عشرات الأشخاص الذين أصيبوا بإنفلونزا الخنازير.. فلو جاء خبر هذا الوباء بقدر خطورته لما التفت إليه الرأي العام. فأغلب خبراء الأوبة تحدثوا بالأساس عن وباء عادي خطورته المقلقة أنه جديد..
قنوات الإعلام خاصة الفضائيات وجدتها مادة دسمة للإثارة وجلب الجمهور أمام الشاشات.. صور الهلع في وجوه الناس وهم يلفون وجوههم بالكمامات مرعوبين.. تحذيرات للمكسيكيين بالبقاء في منازلهم.. منع السفر من وإلى المكسيك.. توقعات بانتشار الوباء وإصابة الملايين.. روايات عما يمكن أن يؤول إليه مصير البشرية.. وكل مصدر إخباري يريد أن يكون له السبق في كشف آخر قصص الرعب. يا لله! إنه من نفس العائلة الفيروسية للإنفلونزا الإسبانية التي فتكت بعشرات الملايين عام 1918م.. التي أطلق عليها في منطقة نجد (سنة الرحمة).. هم لم يُذكِّرونا أن ذاك الوباء كان قبل التطور الهائل الذي حصل في الطب خاصة اكتشاف اللقاحات والمضادات الحيوية..
منظمة الصحة العالمية رفعت درجة خطورة الوباء إلى المستوى الخامس، أي الدرجة الثانية من الخطورة، رغم أن المكسيك وهي منشأ المرض بعد أن تخلصت من الجزع المباغت أعلنت أن الوباء تحت السيطرة، ورغم تكرار كثير من المسؤولين والخبراء عدم الحاجة للمبالغة بشأن الوباء..
لقد كان منظر كثير من خبراء الصحة مثيراً للشفقة عندما يتكرر المشهد التالي: يصرح أحدهم أمام إحدى الفضائيات بضرورة أخذ الحيطة ولكن لا داعي للهلع، فيرد عليه المذيع: أليس هو نفس الوباء الذي أفنى الملايين قبل تسعين عاما؟ أليس هو مرضاً جديداً لا لقاح له؟ هل تريد أن تقول للناس أن يعيشوا حياتهم الطبيعية وكأن شيئا لم يكن؟ وهنا يتراجع الخبير من ثقل تحمُّل المسؤولية، وينساق مع المذيع الصميدع.. إنها لعبة نفسية..
مرة قال لي أحد الأصدقاء: عندما كنتُ في بريطانيا أصيبت طفلتي بحمى عادية، وكانت ابنتي البكر وكنت لا أعرف ما ينبغي عمله ولم تكن أمها حاضرة، فهرعت بها سريعاً إلى الإسعاف، فقال الطبيب: الحالة طبيعية تنتهي ببعض مخفضات الحرارة والمسكنات، فصرختُ غاضباً: بل المسألة خطيرة، فسألني: إلى أية درجة؟ قلتُ: أظنها قد تموت الليلة! فانتقل الجزع إلى الطبيب وأمر بسرعة إدخالها للعناية الخاصة.. لقد رمى الطبيب كل علمه وخبرته خشية أن يصيب الطفلة أي مكروه فيتحمل المسؤولية.. إنها حالة ذهنية يعبأ بها الإنسان فتلعب في نفسيته ويتخذ موقفاً لا عقلانياً..
يقول المختصون إن الإنفلونزا مرض فيروسي مُعدٍ تنتقل جراثيمه عبر الهواء، وتصاب به نسبة كبيرة من الناس، ففي أمريكا تُشير الإحصاءات إلى أن هناك الملايين يصابون به كل سنة، مع نحو 200 ألف يضطرون للترقيد في المستشفيات، بمعدل وفيات 36 ألف حالة. هذه أخبار مؤسفة جداً لكنها جزء من الحياة اليومية الطبيعية التي نتعامل معها بعقلانية الاحترازات الصحية المعتادة.
خلال حالات الذعر نهرع نحن الجماهير إلى المنقذين من مسؤولي الصحة والسياسة الذين هم بدورهم منساقون للموجة الإعلامية، فينقاد الجميع إلى تعليماتهم مهما كانت مكلَّفة وغير مبنية على حقائق، فلا شيء أهم من الصحة.. وكلما كان الخبر شديد المبالغة انقدنا للتعليمات أكثر، متنازلين عن عقولنا وأموالنا.. ففي عام 1995 قُضِي تقريباً على تجارة لحوم الأبقار في بريطانيا بسبب الهلع الذي أصاب الناس من الإعلام نتيجة وباء جنون الأبقار.. ومنعت كل دول العالم استيراد لحوم الأبقار منها، فتمَّ خلال سنوات قليلة القضاء على أكثر من ثمانية ملايين رأس بقر، ومات خلال الفترة بضعة أشخاص.. وبعدها حصل هلع مماثل من إنفلونزا الطيور.. وقيل إنها ستُهلك الملايين، بينما بلغت حصيلة الوفيات 114 شخصا منذ ثبوت أول إصابة عام 2003 بهونج كونج.. الأوبئة التي حظيت بالإثارة الإعلامية كجنون البقر وسارس وإنفلونزا الطيور والآن الخنازير (وربما لاحقا تظهر إنفلونزا الدببة في الأسكيمو)، كلها مجتمعة قضت على بضع مئات من البشر، بينما الأوبئة التي تفتك بالملايين بسبب الإهمال والجهل وسوء التغذية ورداءة الظروف الصحية تتوارى إلى الخلف..
يومياً يموت آلاف الأطفال مرضاً وجوعاً، فتظهر مأساتهم محجوبة خلف مئات الأخبار الأخرى، أما خبر وفاة بطَّة في جزر الواقواق بسبب إنفلونزا الطيور فسيظهر على صدر الأخبار لأنه ربما بالصدفة ينتقل إلينا.. الآن ومنذ أسابيع يظهر لك أهم خبر عن وقوع أول حالة إصابة بإنفلونزا الخنازير بالبلد الفلاني، ووفاة أول شخص في البلد العلاني..
هذه ليست مؤامرة بل هي طبيعة الإعلام الجماهيري الشعبوي.. التضخيم والإثارة اللذان يقودان أصابعنا نحو المحطات الفضائية الأكثر مبالغة والأسرع في تغطية آخر الأخبار المثيرة.. والطريف أن البعض الذي لم تنطلِ عليه التهاويل يُصرُّ على أنها مؤامرة؛ لأن التهويل غير مستند على حقائق واضحة.. ففي أكبر مواقع الإنترنت مثل (ياهو) هناك تصويت بعشرات الآلاف حول المؤامرة.. أكثر المؤامرات التي حظيت بشعبية، هي دوافع القنوات الفضائية لجذب الجمهور وما تحققه من أرباح في إعلاناتها التجارية.. وتأتي في المرتبة الثانية من المؤامرات الدوافع التسويقية لشركات الأدوية، ثم نظريات مؤامرة مضحكة لا يتسع المقال لعرضها..
كل ذلك لا يعني أن الوباء الجديد ليس خطيراً، بل هو كذلك كالإنفلونزا المعتادة وتؤخذ له كافة الاحتياطات الصحية المعروفة.. لكن الإعلام الشعبوي لا يقبل هذا الهدوء العقلاني، بل يروي قصصاً مثيرة للرعب لشد الانتباه ولو كان مبنياً على أوهام.. بعضنا يتذكر تلك الصورة المأساوية التي صدمت العالم بأسره ولا تزال تجرح الضمير الإنساني خلال المجاعة في أفريقيا عام 1994، التي نال مصورها كيفن كارتر جائزة بولتزر العالمية.. يظهر بها طفل يحتضر جوعاً وحوله نسر ينتظر موته لينقض عليه.. قيل إنه في السودان، وقيل إن مخيم التموين للأمم المتحدة كان يبعد كيلومتراً واحداً عنه.. لا أحد يعرف من أين أتى هذا الطفل، وهل كان متوجهاً للمخيم يحدوه الأمل بالنجاة.. ولا أحد يعرف ما حصل له بعدها، حتى المصور لا خبر عنه سوى أنه انتحر غمَّاً بعد التقاطه الصورة بثلاثة أشهر.. مثل هذه الأخبار هي أيضاً تستحق التغطية أيها الإعلام!!
alhebib@yahoo.com