حين تغيب الحقيقة تكثر التساؤلات، يصبح للفرضيات ضوء كإشراقة اليرقات في انبثاقها، كل أدوات الاستفهام تغدو مُشرعة للبحث عن الحقيقة المُغيبة، ومن هنا طفق يتساءل: ما فائدة هذه الأوراق العتيقة التي تلهثون وراءها.. قالها مستوضحا وإن أضمر الكثير من الاعتراض، قاطعته: تعني الوثائق التاريخية التي عندي وعند أخيك، مط شفتيه للأعلى وقال: أجل هي بعينها، وأضاف: أية قيمة لها ولهذا التراث الذي تتكالبون عليه؟ وهل للحديث عن التاريخ والاشتغال به في زمن العولمة جدوى حضارية لأمة تروم التقدم وهي أسيرة ماضيها؟!
سألته:هل تزور الطبيب من وقت إلى آخر؟ قال أجل. وحين تشكو له مرضا معينا ماذا يفعل؟ قال: يسألني عما مر بي من أعراض ثم يصف لي الدواء المناسب. ألا يسألك عما إذا كانت أعراض هذا المرض قد جاءتك في وقت سابق؟ قال: بلى. ألا يمكن أن يسألك عما إذا كان أحد أبويك قد أصيب بهذا المرض من قبل؟ قال ممكن. قلت: وفي أثناء ذلك ألا تراه يُقلب صفحات ملفك الطبي ويطالعها باهتمام؟ قال هو كذلك!
مناقشة الطبيب لمريضه وتقليبه لصفحات ملفه ما هي إلا مراجعة لتاريخه الطبي، وبدون هذه المراجعة قد لا يكون بوسعه التوصل لعلاج تنتفع به، والتثاقف الإيجابي مع التاريخ والوثائق والتراث لا يُسقط المستقبل من حسبانه، كما لا يتجاهل القاعدة التاريخية التي يحتاجها كل باحث للنهوض إلى تحقيق أهدافه، والانطلاق منها إلى ما يريد، أما تراثنا فأهميته تجيء من طبيعة تاريخنا - وأعني به تاريخ وسط وشرق الجزيرة العربية، الذي ظل لقرون متواريا عن الأنظار، أو مُغيباً عن الوعي بأهميته، أو خارج دائرة الضوء التي تستفز المؤرخين لتدوينه، وهكذا نسي أو تُنوسي في واحدة من أكثر قصص النسيان مأساوية.
كان ذلك في وقت مبكر من تاريخنا، وتحديدا إثر انتقال مراكز الخلافة الإسلامية إلى الشام والعراق ومصر، وهو ما جعلنا معزولين عن حركة التدوين التاريخي، وعن نبض العالم من حولنا، ولولا وجود الحرمين الشريفين ومن يؤمهما من العلماء والمؤرخين والأدباء لم حظيا بما قُدر لهما أن يُكتب عنهما، أما وسط وشرق الجزيرة العربية وكذا شمالها وجنوبها فكانت في حكم المنسية أو المعزولة، حتى بات الباحثون المعنيون بتاريخها يستجدون الكلمة والكلمتين من هذا المخطوط أو تلك الوثيقة، أو ما قاله هذا الرحالة أو ذاك في سبيل التأريخ للجوانب المهملة من تاريخ بلادنا، تلك التي لم يكتب عنها مجتمعة كالذي كتب عن مدينة واحدة من مدن المركز، قد أكون مبالغا، ولكن من لي بموسوعة عن مدينة مُعرقة كالأحساء أو حتى عن شرق الجزيرة العربية كموسوعة ابن عساكر المكتوبة عن مدينة دمشق وحدها والمطبوعة في ثمانين مجلداً.. أتراني أحلم؟
قد أكون.. بل هو ذاك بعينه، وإذا أردت أن تعرف مصداق ذلك فحسبك أن تعرف أن الدولة العيونية التي قضت على دولة القرامطة، وشظت جماجمهم كما يقول شاعرها، وخلفتها على حكم الأحساء والقطيف ردحاً من الزمن، ما كان للكثير من أخبارها أن يُعرف لولا الجفوة التي لقيها ابن المقرب العيوني من أبناء عمومته، فاضطرته إلى مغادرة الأحساء إلى العراق، وهناك عرفه الناس؛ حيث وجد من يحتفي بشعره، ومن يتسابق على نسخ ديوانه، الذي ضم بين دفتيه الكثير من أخبار الأحساء والدولة العيونية، ورغم كثرة النسخ الخطية الموجودة لديوان هذا الشاعر الأحسائي الكبير إلا أنه لا توجد نسخة واحدة يمكن أن نطلق عليها النسخة الأحسائية!
هذه الانكسارات المؤلمة التي مُني بها تاريخنا - وأمثالها كثير - ما كان لها أن تجبر وتلتئم لولا النهضة التاريخية التي يعيشها ويتنفسها الجيل الجديد من الباحثين والمؤرخين الشباب، أولئك الذين أخذوا على أنفسهم عهداً أن يقرؤوا التاريخ بوعي ونقد يقظين ومتحفزين، يليقان ويواكبان الكتابة التاريخية المعاصرة لتاريخنا القديم، ويستعيدان تدوينه بقراءة فاحصة تستهدف المنجز وغير المنجز، وتستقرئ ما كتب وما لم يكتب من تاريخ دوله وبلدانه وقبائله وأعلامه، هذا الجيل غير قانع بما انتهى إليه الروّاد من كتابة وتدوين، وإن أدى الرواد الكثير مما يتعين عليهم عمله، هم الآن يفتشون في الأدراج المهجورة، ويبحثون في الوثائق المغمورة، ويغوصون بين الركام ليعثروا على وثيقة مهترئة أو بعض وثيقة بالية، ومنطلقهم ألا ثقة بلا وثائق، كما هو شعار المرحلة لديهم ولدى مؤسساتنا البحثية الناهضة.
استطلاع واقع هذا الجيل يكشف عن قدرات كثيرة ولكنها غير مقدرة، وجهود كبيرة ولكنها غير منظمة، وهي تعطي بغير حساب، وبإزاء ذلك تصيب وتخطئ، وتلام وتعذر، ومنطلقاتها في الغالب ذاتية لا وطنية، وأعني بالذاتي ما يخص الأسرة أو القبيلة أو القرية، وبالوطني ما يخص الوطن كافة، ومع ذلك فجهودهم تحتاج إلى الدعم وتستحق التشجيع؛ لأن الأسرة نواة المجتمع والقبيلة كذلك وكذا القرية، وكلها تمثل المكون العام لتاريخ الوطن، وهي وإن بدت متفرقة إلا أن حضورها الجمعي أمام الباحث يشكّل ولا شك ما يشبه قطع الفسيفساء المتفرقة إذا ما اجتمعت وأعطت صورة شاملة لتاريخ الوطن، وما يقدمونه في كثير من نماذجه لا يقل أهمية وجودة صنعة عن تلك التي يكتبها الأكاديميون وأهل الاختصاص.
هذا بعض ما يتعلق بجهود الأفراد أو الباحثين الهواة، أما على المستوى المؤسسي (الرسمي) فهناك دارة الملك عبدالعزيز الرائدة بإصداراتها القيمة والمتكاثرة، وإلى جانبها مكتبة الملك فهد الوطنية، ومكتبة الملك عبدالعزيز العامة، وكذا أقسام التاريخ في الجامعات السعودية، التي استشعرت أهمية دورها العلمي، وتحملت مسؤولياتها الثقافية نحو تاريخنا، فوجهت طلبة الدراسات العليا إلى تغطية الجوانب المهملة التأريخ من تاريخنا الوطني.
وفي ذات السياق يبرز دور المؤسسات (الأهلية)، ويمثلها في هذا السياق مركز حمد الجاسر الثقافي، المنبثق عن مؤسسة حمد الجاسر الخيرية، وهو مركز معني بذات الرسالة التاريخية التي أرسى دعائمها الشيخ حمد الجاسر؛ للإسهام في خدمة تاريخنا وآدابنا وتراثنا.
وامتداداً لهذا الدور تبرز على الصعيد الإعلامي مجلات دورية مُحكمة مثل: مجلة الدارة، مجلة العرب، مجلة الدرعية وغيرها، غير أننا وإن كنا نجد الكثير من الفائدة والمصداقية فيما تطرحه تلك المجلات والصفحات المعنية، فإننا لا نجد ذات الموثوقية فيما تطرحه تلك المواقع الإلكترونية، المُبيئة لحساب تواريخها العشائرية، المتسمة في كثير من أطروحاتها بدافع العاطفة لا البحث عن الحقيقة التاريخية، وبالتالي لا يمكن الاتكاء على كثير مما يطرح فيها؛ لأنها تجمع الغث والثمين، والنافع والضار، وقبل هذا وذاك لا تحظى بالمصداقية التي تتمتع بها سائر المجلات والصفحات المذكورة، إلا أن وجودها وما تطرحه من تفاعل وحراك يبرهن بصدق على آثار نهضة تاريخية تستحق الاهتمام.
عبدالله بن أحمد آل ملحم