لا تنحسر ولا تندثر الطاقات الشعرية الخلاقة التي تحتويها قصائد أبي الطيب مالئ الدنيا وشاغل الناس، فهو يقبع في ذاكرة أمة تجري أبياته على لسانها ويسطر قصائده بنانها.
فتنة ديوان المتنبي لا يخبو أوارها، فكلما عدنا إليه في فترة مختلفة من فترات حياتنا نكون بها قد قلبنا كتباً عددية، والتهمنا صفحات تحتشد بالفلسفة والآداب وعلوم من جميع أصقاع الأرض إلا أن ديوان أبي محسد يظل منظراً لعمي الذائقة، مسمعاً لمن بادره صمم الحياة اليومية المتشابكة.
وأنا بين يدي الديوان هناك سؤال يحاصرني دوماً، مَن كان القارئ الخفي للمتنبي؟ مَن مرجعيته النقدية؟
فالمبدع أو الشاعر عموماً لابد أن يستحضر جمهوره وهو في حالة الإبداع، لابد أن يكون في رفقته قارئ خفي يكتب له، قد لا تتضح ملامح هذا القارئ، ولكن العمل الأدبي يكتب له ولذوقه ولمعاييره النقدية، وكلما اختار الكاتب قارئاً نخبوياً ارتفعت القيمة الفنية والأدبية للعمل الأدبي، ومن هنا كانت هناك فنون نخبوية وفنون شعبية.
لكن المتنبي استطاع بطاقات الشعر المتوهجة داخل قصائده أن يخترق كل الأذواق، فمَن قارئه الخفي؟
هل هو سيف الدولة الحمداني، لكن الخليفة وإن كان يتذوق الشعر إلا أنه قائد حربي، وليس ناقداً أدبياً، اما جلاس الخليفة في البلاط من أمثال (ابن مسكويه وابن خالويه)، فلم تكن علاقة المتنبي بهم طيبة، وكانوا يكيدون له ولموهبته، فلا أعتقد أنهم قارئه الخفي.
ولا تطمعن من حاسد بمودة.... وإن كنت تبديها له وتنيل
هل هي الأكاديمية العلمية التي كانت تقوم في بادية السماوة بالعراق؟ والتي كان أبو محسد يذهب إليها ليتفصح لسانه من كلام الأعاريب بعيداً عن كلام المدن الذي خالطته العجمة؟ لكن البساطة في بادية السماوة لا يمكن أن تفسر لنا العمق الفلسفي في الصياغة والتركيب لمعظم أبيات المتنبي؟
وكم من عائب قولا سقيما.... وافته من الفهم السقيم
هل كانت أسواق الوارقين التي كان المتنبي يؤمها بصورة دائمة تحتوي لجاناً من النقاد يستطيعون أن يقاربوا قصائده ويعالجوها بنقد منهجي منظم، ومن ثم استطاع من خلاله المتنبي أن يطور ملكته حتى تصل إلى هذه الآفاق الشعرية الشاسعة؟
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت... مني بحلمي الذي أعطت وتجريبي
فما الحداثة من حلم بمانعة..... وقد يوجد الحلم في الشبان والشيب
أنها تخمينات فقط أحاول أن أفسر بها موهبته الشامخة، بينما هو في حقيقته كان ينهل من تلك الطاقة الكونية المبدعة حولنا، والتي لا ينالها ويعرف دربها إلا الصفوة، أو صفوة الصفوة ممن يخلدهم التاريخ.