Al Jazirah NewsPaper Sunday  17/05/2009 G Issue 13380
الأحد 22 جمادى الأول 1430   العدد  13380
ستون ساعة.. في (لندن).. 3-3
لقاء المبتعثين (الرائع).. و(الغائب) عن (التلفزيون)..؟
عبدالله مناع

 

كان اليوم التالي بعد (حفل الافتتاح).. وكأنه امتداده أو مكملٌ له، أو خاتمته، ففيه جرى اللقاء بين الطلبة والطالبات.. ومعالي وزير التعليم العالي الأستاذ الدكتور خالد العنقري... في حوار مفتوح عريض حول كل ما يهمهم ويهمهن ويشغلهم ويشغلهن، وقد كان يمكن أن يتم (اللقاء).. في يوم الافتتاح نفسه.. لو كان في ساعاته متسعاً.

في ذات الخيمة البيضاء - على أرض مواقف السيارات - والتي احتضنت ب(أبهة) ورشاقة (حفل الاستقبال) الذي أعقب حفل الافتتاح.. تم اللقاء الحاشد مع المبتعثين والمبتعثات.. بعد أن ملئت أرضية (الخيمة) بمائتين أو أكثر من المقاعد لجلوسهم وجلوسهن.. بينما احتل مقاعد الصف الأول معالي الوزير وصحبه إلى جانب كبار الضيوف والشخصيات، ليبدأ اللقاء في موعده تماماً.. عند الثانية ظهراً، ب(القرآن الكريم).. أعقبه نشيد ديني وطني جميل في حب الله والوطن، قدمه الطالب (ربيع حافظ) مع خمسة من زملائه.. وقد استخدموا في أدائه أحدث التقنيات الفنية وأعلاها، وهم يمزجون مزجاً حياً مباشراً.. بين أصوات الموسيقى التي كانت تأتيهم من جهاز (الإمبليفاير)، وأصواتهم التي كانت تصاحبها في نسق بديع.. حتى بدا للحاضرين وكأن فرقة موسيقية كاملة تقف خلفهم.

كان النشيد جميلاً في أدائه.. ومؤثراً في كلماته البسيطة المعبرة الداعية إلى الله والمستعينة به، لتسرقني اللحظة.. فأسترجع (همزية) شوقي وشدو (أم كلثوم) وهي تقول: (الله فوق الخلق فيها وحده والناس تحت لوائها أكفاء، والدين يسر والخلافة بيعة والأمر شورى والحقوق قضاء)، لأهمس لنفسي في تلك الهنيهة.. قائلاً: ما أقدر الفن الأصيل والجميل على خدمة الدين والقيم.. وكل جميل في هذه الحياة.

بعد أن انتهت المجموعة من أداء النشيد وسط إعجاب الحاضرين واستحسانهم.. تقدم قائدهم في (دقلته) النجدية الطويلة الجميلة، المزركش أطرافها.. وزملاؤه من بعده للسلام على معالي الوزير وتحيته، ليهنئهم ويتمنى لهم التوفيق.. وهو يذكرهم بألا يطغى (تفوقهم) الفني على (واجبهم) الدراسي..!؟

ورغم أننا في (لندن).. فقد كان المشهد في مجمله.. مفاجأة سعيدة بالنسبة لي.. وربما للحاضرين جميعاً أو النسبة الأعلى منهم.

* * *

ثم بدأ اللقاء.. ب(مقدمة) جميلة مختصرة، ارتجلها الدكتور العنقري.. حيث رحب فيها بالمبتعثين والمبتعثات، وهو يهنئهم على جهودهم وجهودهن التي بذلوها وبذلنها.. للرفع من معدلاتهم ومعدلاتهن التحصيلية، ليكون لهم، ويكون لهن سبق الالتحاق ب(برنامج خادم الحرمين الشريفين).. للابتعاث الخارجي، الذي دعا له والد الجميع: الملك عبدالله بن عبدالعزيز.. بعد آخر زيارة قام بها للولايات المتحدة الأمريكية، ثم أقرَّ ميزانياته الهائلة.. دون تحفظ، إيماناً منه بأن ذلك هو السبيل للحاق بالأمم التي تقدمتنا، ليختتم كلمته بالاعتذار عن تأخر هذا اللقاء معهم ومعهن.. الذي كان من بين أسبابه ضيق المقر السابق للملحقية الثقافية، وهو يشير إلى أن (فورة) الابتعاث كلها وإلى بريطانيا وأيرلندا خاصة.. إنما حدثت خلال الستة عشر شهراً الماضية، حيث قفز عدد المبتعثين والمبتعثات من أربعة آلاف إلى أربعة عشر ألفاً.. يضاف إليهم مرافقوهم الذين بلغوا أحد عشر ألف مرافق ومرافقة.

ومع تصفيق الحاضرين الحار الذي تصاعد عند سماع هذه الأرقام المبهجة.. كان معاليه يعلن بصدق وحميمية عن ترحيبه ب(كل) أسئلة المبتعثين والمبتعثات، وهو يرجو (الجميع).. ألا يتحفظوا أو يترددوا في طرح ما لديهم - ولديهن - من استفسارات أو ملاحظات.. لأنه (ما جاء بتكليف من خادم الحرمين الشريفين.. إلا للقائهم جميعاً، والاستماع إلى استفساراتهم.. والإجابة عليها).. ليتضاعف هتاف المبتعثين والمبتعثات، وقد أصبح عدد الواقفين والواقفات يكاد يكون مساوياً لعدد الجالسين والجالسات، ثم ليدور (اللغط) المعتاد بعد ذلك.. حول من يبدأ أولاً: المبتعثون أم المبتعثات..؟ ومن يمين (الخيمة).. أم من يسارها..؟ ومن مقدمة الصفوف.. أم من آخرها..؟ ليحُسم سريعاً.. ب(الاتفاق) على أن يبدأ (الحوار) بسؤال من (مبتعث)، يعقبه آخر.. من (مبتعثة)، ومن اليمين مرة.. ومن اليسار أخرى، ومن مقدمة الصفوف مرة.. وأخرى من آخرها، لينطلق بعدها حوار وطني طليق شفاف.. بين (أب): هو الدكتور خالد.. و(أبناء): هم المبتعثون.. و(بنات) هن المبتعثات، وقد غمرته حميمية.. مشرَّبة بتلك العاطفة النبيلة التي تجمع بين الآباء وأبنائهن وبناتهن، على أن الغلبة فيه كانت للمبتعثين والمبتعثات لمرحلة (البكالوريوس).. الأكثر عدداً والأصغر سناً، الذين فاجؤوا الدكتور خالد - كما فاجؤوني - بأن بعضهم اصطحب معه إخوانه أو أخواته ل(العيش) معه في بريطانيا أو أيرلندا، ول(الدراسة) بالتالي.. في مدارسها ومعاهدها وكلياتها، لكن مفاجأتي الحقيقية الثانية.. إنما كانت في (حضور) الدكتور خالد، وبساطته، وسعة صدره التي استوعبت برحابة ملفتة أسئلة الحاضرين والحاضرات جميعاً: الجيدة، والمتوسطة، والمكررة من أصحابها وبإلحاح.. بلغ حد الإزعاج أحياناً، ولكن الدكتور خالد ظل على صبره وأناته في الاستماع إلى تلك الأسئلة المتكررة.. بل والرد عليها مرة ومرتين، ودون أدنى ضيق أو ضجر..!!

* * *

كان طبيعياً.. وفي مستهل أمثال هذه اللقاءات أن يُثار موضوع (المكافآت) الشهرية وقلتها.. حتى ولو لم تكن قليلة فعلاً، فتلك هي (نغمة) المبتعثين والمبتعثات المفضلة.. على مر أزمان الابتعاث، ولكن المثير والجميل.. أن أحداً من هؤلاء وأولئك لم يستفسر عنها أو يطالب ب(زيادتها) إجمالاً.. إلا أن عشرات الاستفسارات انهالت حول (زيادة) ال(50%) التي اعتمدها خادم الحرمين الشريفين للمبتعثين والمبتعثات ومرافقيهم عند زيارته لهم.. ثم أوقفت عن (المرافقين) بعد الشهور الثلاثة الأولى.. بحجة أن صرفها لتلك الشهور الثلاثة إنما كان (خطأ) أو تجاوزاً في فهم (القرار)، كما قالت وزارة المالية.. في تبرير إيقافها، وأحسب أن الخطأ والتجاوز.. إنما يكمن في (إيقافها) وليس في استمرار صرفها على (المرافقين)، إذ إن دافع زيادة الخمسين بالمائة للمبتعثين والمبتعثات.. هو ارتفاع مستوى المعيشة المرهق في بريطانيا وأيرلندا بصفة عامة، وليس على المبتعثين والمبتعثات وحدهم.. دون مرافقيهم..؟!

على أن (الأمر).. الذي شغل أكبر مساحة زمنية من زمن ذلك (الحوار) الذي امتد لأكثر من ثلاث ساعات.. هو (قضية) الطلبة السعوديين الذين يدرسون على حساب أسرهم أو على حساب إخوانهم وأخواتهم من المبتعثين والمبتعثات.. كما حدث مؤخراً، والذين يرغبون في الانضمام إلى (البعثات) عندما تتوافر لديهم شروط الانضمام (التواجد والالتحاق بأحد الكليات.. والنجاح في السنة الأولى منها)، حيث بدا أن هناك خللاً.. أو (تجاوزاً) لهذه القاعدة الذهبية، وغياباً في المقابل لأي (قاعدة) نظامية معلومة ل(الجميع).. لتكون فيصلاً في الانضمام إلى (البعثات) من عدمه، وهو ما أرجو معاليه أن يعيطه بعضاً من وقته - الذي أعرف درجة ازدحامه - لوضع حد نظامي له.. حتى وإن حسم - عبر ردوده - جانباً من (القضية)، عندما قال إن (السنة الخامسة) من برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي (وهي القائمة.. الآن)، ستكون وقفاً على من يتم ابتعاثهم للدراسات العليا بهدف الحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه.. (وليس على من دونهم)، فإن (الأمر) برمته يحتاج - مع ذلك - إلى قواعد و(ضوابط) وربما ل(تسويات) لتلك الحالات التي لم يعلم أصحابها بالتوجهات الجديدة للبرنامج.. فهؤلاء هم في البداية والنهاية مواطنون سعوديون شاءت ظروفهم المختلفة أن يوجدوا في بريطانيا أو أيرلندا، وأن يكون لهم طموحهم الإنساني المعرفي في أن يرتقوا بأنفسهم وقدراتهم وإمكاناتهم، وهو ما أكاد أجزم بأن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث إنما هدف إلى تحقيقه أساساً وإجمالاً.. عند انطلاقته الأولى.

* * *

بعد مضي الساعتين الأولى من ذلك (الحوار)، الذي كان شائقاً ممتعاً حقاً.. إذا استبعدنا تلك الأسئلة المكررة، والتي تحول بعضها إلى ما يشبه الرجاءات الشخصية.. كنت أشعر بشيء من الإشفاق على الدكتور خالد من طول المواجهة، لأهمس لأحد المسؤولين ممن صادف وجودي إلى جواره: ألا يُقدم فنجان من الشاي أو القهوة للدكتور خالد.. ليبل (ريقه)..؟

ولكن، قبل أن يجيبني كان الدكتور خالد.. وكأنه قد سمع همسي، ليشير بيده.. كمن يريد أن يقول: لا.. وهو يمد يده إلى كوب الماء الذي أمامه، ليرشف منه رشفة أو رشفتين.. مواصلاً إصغاءه إلى بقية الأسئلة والمداخلات والإيضاحات التي قدمها بعض الملحقين الثقافيين المرافقين، وفي مقدمتهم الملحق الثقافي السعودي في لندن: الدكتور غازي مكي.. الذي كان سعيداً مبتهجاً ب(اللقاء).. بقدر ما كان وجلاً مخافة أن يذهب الحوار إلى ما لا ضرورة له، ليستمر الدكتور خالد.. وإلى نهاية اللقاء الذي اكتمل بعد ثلاث ساعات ونيف، وهو في كامل لياقته الذهنية والنفسية.. ودون أن تتخلى عنه ابتساماته ومرحه، لأعلم فيما بعد بأنه واصل لقاءاته واجتماعاته مع الدكتور غازي وأركان ملحقيته إلى جانب بعض الملحقين الآخرين.. إلى ما بعد منتصف الليل لتسكين القرارات التي اتخذها خلال اللقاء.

* * *

مع مغادرتي (خيمة) اللقاء، ومبنى الملحقية إجمالاً وقد نالني بعض من تعب الجلوس الطويل لتلك الساعات.. كنت أستحس ابني في البحث عن مقهى لأخذ فنجان من الشاي أو القهوة مع أي لقمة (نتلبب) بها قبل أن تدركنا الساعة السادسة! ظناً مني بأن مطاعم ومقاهي (لندن) ما تزال على عهدي القديم بها.. في تقديسها لمواعيد تقديم الطعام (من الثانية عشرة إلى الثالثة ظهراً.. للغداء، ومن السادسة إلى التاسعة مساءً.. للعشاء).. أما ما بين تلك المواعيد فإنها تتحول إلى (مقاهي). فهز كتفيه.. وهو يقول: لقد تغيرت (لندن).. التي تعرفها، وهو يصحبني إلى منطقة خلف مركز (سيلفريدج) الشهير في شارع (أكسفورد)، لأجد نفسي وسط سلسلة متجاورة جميلة من المقاهي والمطاعم.. ربما خمسة.. ربما سبعة.. ربما أكثر أو أقل، وهي تقدم وجبات خفيفة واسعة في تشكيلتها إلى جانب كل المشروبات.. وعلى مدار ساعات النهار وإلى منتصف الليل.. ودون تقيد بتلك الصرامة أو (الكلاسيكية) الإنجليزية التقليدية التي عرفتها، لنحشر أنفسنا على مائدة بين تلك الموائد.. المتراصة، والمتصلة وكأنها لمطعم أو مقهى واحد.. بينما هي - وكما قلت - ربما خمسة أو سبعة.. أو أكثر، لأسأل ابني.. بعد قطعتين من (الكريب) ورشفتين من قهوتي: ما رأيك في لقاء معاليه مع المبتعثين والمبتعثات..؟ وقد كان واقفاً مع الواقفين أو جالساً بين الجالسين..

- كان عظيماً..

- وهل كان المبتعثون والمبتعثات.. سعداء به..؟

- جداً، ولو حُلَّت مشكلة الراغبين في الانضمام إلى (البعثات).. سيكونون أسعد.

* * *

في صباح اليوم الأخير، وبعد ستين ساعة من الإقامة (المكبوسة) بالمواعيد واللقاءات في (لندن).. كان (المستر أميني) ينهب بنا الطريق.. وصولاً إلى مطار (هيثرو) قبل أن يدركنا الزحام، بينما كنت استعيد تفاصيل تلك الساعات التي مضت.. والافتتاح وكلمة السفير.. وخيمة حفل الاستقبال، واللقاء الحاشد والجميل بين الوزير والمبتعثين والمبعثات.. لأقول في نفسي: كم هي محظوظة هذه (الملحقية الثقافية) في لندن..! بأولئك الرجال الأفذاذ الذين تتابعوا على إدارتها.. بدءاً من نجم الملحقية الأول الشيخ عبدالعزيز التركي الذي وضع أساسها التربوي والإنساني، إلى نجمها الثاني الأستاذ عبدالله الناصر، الذي أكمل تلك الأساسات وأضاف عليها من صادق حماسه ووطنيته، إلى نجمها الثالث الدكتور غازي مكي الذي جدد بناءها بما يشبه (المعجزة)، فقد تم شراء المبنى.. وتجديده.. وتأثيثه.. والانتقال إليه.. في أقل من عام. لقد ذكروني بأولئك الكبار الذين عرفتهم أيام سنوات ابتعاثي.. من الشيخ أحمد المانع إلى الأستاذ إبراهيم القدهي.. في (القاهرة)، إلى الشيخ صادق الكردي والأستاذ علي يابس.. في (الإسكندرية)، الذين تعلمنا على يديهم (الوطنية).. دون خطب أو وعاظ.

* * *

في اليوم الثاني أو الثالث من عودتي.. كنت أسأل بلهفة وحماس كل من حولي: إن كان أحداً منهم قد شاهد على أي من قنوات التلفزيون ذلك اللقاء الجميل.. بين معالي الوزير والمبتعثين والمبتعثات..؟

فكان جماع إجاباتهم أن أحداً منهم لم يشاهد شيئاً!! لينتابني إحساس مرير ب(الخسارة) على جانبيها: جانب الآباء والأمهات والجدات والعمات في طول الوطن وعرضه.. الذين حرموا من مشاهدة أبنائهم وبناتهم وهم وهن يناقشون.. يناقشن معالي الوزير، وجانب (التلفزيون) نفسه.. الذي حرم برامجه من مادة تلفزيونية حية نابضة، هي بالمعيار الإعلامي من الطبقة الأولى.. الأكثر مشاهدة!!




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد