كثيرة هي أعداد البشر في الأمتين العربية والإسلامية، وبالكثرة تتحقق القوّة والمنعة، وبالسواعد المؤهّلة تُبنى الأمجاد والحضارات، وتفرض المهابة والسيطرة والتمكن في إدارة الأحداث والمتغيرات والتحكم فيها.
ولكن أي كثرة هي التي تتحقق بها القوة والمنعة؟ هل هي في كثرة الأعداد الغفيرة؟، أم في كثرة النماذج الرفيعة؟، الإجابة واضحة، ولا تحتاج إلى دليل أو برهان، إنها فيهما معاً إذا اجتمعا، أعداد غفيرة وفي الوقت نفسه متميزة رفيعة.
وإذا تعذّر ذلك، وهذا أمر متوقّع، فلاشك أنّ النماذج الرفيعة هي التي تحقق القوة والمنعة، ولكن ما حال واقع أعداد الأمة، هل هي غفيرة؟ أم نماذج رفيعة؟ أم ...؟.
المتفحِّص يتبيّن له دون عناء، أنّ جل الأعداد المتوفّرة حالياً ما هي إلاّ أصفار وغثاء، أعداد وفيرة جداً لكنها في المستويات الدنيا من الإعداد والتمكن، فمهارات الحياة العلمية والعملية التي تتملّكها هذه الأعداد تتصف بالبساطة والبدائية، ولا يمكن أن تمكن المتصف بها من إدارة المتغيرات والتفاعل مع متطلّبات الحياة الحيوية المؤثرة في دفع عجلة التقدم والتطور، العشرات من هذه الأعداد لا تساوي الواحد من الأمم الأخرى، لا أعني الأمم التي حازت قدم السّبق في التقدم والرقي، وإنما الأمم التي تُعَد في بداية خطواتها الأولى نحو النهوض والتقدم.
إنّ تسيير عجلة التنمية والتطور في الأمة يحتاج إلى النماذج الرفيعة، ولا يحتاج إلى الأعداد الغفيرة، وهذا أمر يتعذّر تحقيقه في ظل التوجهات الحالية، والسياسات المتبعة في الإعداد والتكوين، فنواتج هذه السياسات ماثلة للعيان تجسِّد الفشل بأجل صوره، وهذا ليس تجن أو ادعاء، بل هو وصف لواقع حال تبدو ملامحها أسوأ من ذلك بكثير، وشواهد الحال تنطق بوضوح تام معلنة عن حال من التردِّي والضَّعف والوهن، أصاب الأمة في مقتل في كل مفاصل حياتها ومجالات شئونها العامة.
ففي المجال الاقتصادي وعلى الرغم من أنها أمة تهيمن على مصادر ثرية من المقوّمات إلاّ أنّ الفقر يدثر هذه الأعداد الوفيرة، ويبدو هذا جلياً في المسكن والملبس، وتملك ضرورات الحياة اليومية الرئيسة، وفي اعتماد العامة على الوظائف الحكومية بدل التوجُّه نحو القطاع الخاص والتوسع في شركات الإنتاج الخاصة على اختلاف أنواعها ومستوياتها.
أما صحياً فهذه الأعداد تعاني من تفشي الأمراض، وتلجأ إلى الغير في تطبيبها ومعاجة أمراضها نظراً لعدم توفر الأعداد المتخصصة الكافية المقتدرة في مجالات الطب المختلفة.
وتعليمياً ما زال التعليم يخرج أعداداً أمية، ليس في التقنية فحسب، بل في مهارات القراءة والكتابة والرياضيات، وما زالت نتائج أبناء الأمة متدنية متأخرة، لا تبرح مؤخرة الركب في الاختراع والإبداع، محافظة على مكانها في ذيل القائمة بين الأمم الأخرى.
وتقنياّ أمام أبناء الأمة طريق طويل من الجهد، وما زال يطول حتى يتملكوا مهارات مبادئ التعامل مع التقنية فضلاً عن إنتاجها.
أما سياسياً فالأمر بيِّن جلي، يتجلّى بوضوح في فقدان الأمة إرادتها، وتقرير خياراتها فضلاً عن فرض هذه الخيارات، ولهذا سهل استباحة حمى ديارها، وسفك دماء أبنائها، والهيمنة على خيراتها، وتجاهل مطالبها.
وبعد هذا، كيف السبيل إلى تجاوز هذا الواقع المر البائس؟
المهمة ليست سهلة يسيرة، لأنّ إعداد الأجيال إعداداً مميزاً وتكوينها في مختلف مجالات الحياة الرئيسة يتطلّب إعادة بناء كامل لمنظومة الإعداد والتكوين، واعتماد خطط طويلة الأمد، وبرامج تعنى بالتمهير والتطبيق، وعقول تؤمن بوجوب التغيير، وتنهج الأساليب العلمية في المتابعة والتقويم والمحاسبة.
إنّ التمكن من مفاهيم العلم، وإتقان المهارات العملية يعدان المدخل الرئيس لصناعة النماذج الرفيعة، والتفوق والتحكم والاقتدار في إدارة المتغيرات وفرض السلطة والإرادة.
وما لم يدرك هذا، ويسار عاجلاً في تجاوز الواقع الحالي المؤسف، فستظل الأمم الأخرى تتداعى على قصعة الأمتين العربية والإسلامية، وتستهين بمطالبها وتتجاهلها، وهذه حال أنبأ عنها حديث القصعة (... ولكنكم غثاء كغثاء السيل)، فما أحوجنا إلى إعادة تأهيل أجيال الأمة تأهيلاً يجعلها نماذج رفيعة، بدلاً من هذه الأعداد الوفيرة التي هي غثاء كغثاء السيل.