قد ينال الإنسان الأجر الكبير، والمنزلة عند الله سبحانه، بالعمل القليل، والنيّة الصادقة، ألم يكن أبلغ شيء في حياة المسلم، ما جاء في كتاب الله سبحانه، أو عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يقول سبحانه في سورة الملك: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الآية).
ويقول -صلى الله عليه وسلم- في حديث رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله قال: (مررتُ ليلة أسري بي برائحة طيّبة، فقلت ما هذه الرائحة يا جبريل؟ قال:
هذه ماشطة بنت فرعون، كانت تمشطها، فوقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله. قالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: ربّي وربّ أبيك. قالت البنت: أقول له إذاً، قالت: قولي له. قال لها: أَوَلكِ ربُّ غيري؟. قالت: ربّي وربك الذي في السماء، فغضب وأمر أنْ تُقتَل تعذيباً.
فأحمى لها بقرة من نحاس، فقالت: إنّ لي إليك حاجة؟ قال: وما هي حاجتك؟ قالت: أن تجمع عظامي وعظام ولدي. قال: لكِ ذلك علينا، لِما لكِ علينا من الحقّ.
قألقى ولدها في البقرة: واحداً واحداً، فكان آخرهم صبيّ فقال: يا أمة اصْبري فإنّك على الحقّ.
وفي هذه المعجزة، وهي تكلّم الصبي وحثه أمَّه على الثبات ثم الصبر، على ما أراده فرعون بها انتقاماً، قال ابن عباس: تكلّموا وهم صبيان: ابن ماشطة بنت فرعون، وصبيّ جريج، وعيسى ابن مريم عليه السلام، والرابع لا أحفظه.. قال بعض الروّاة: هو الصبي الذي تكلَّم عندما راودت امرأة العزيز في مصر، يوسف عليه السلام عن نفسه، وقد قصَّ الله في القرآن خبره وخبر عيسى عليه السلام.
ومحمد بن واسع بن جابر بن الأخْنس، الإمام الربّاني القدوة أبو بكر، ويقال: أبو عبدالله الأزديّ البصري، أحد الأعلام الزهَّاد، حريص على كتمان عبادته، كان يقول: إنّ الرجل ليبكي عشرين سنة، وامرأته معه لا تعلم.
فكان من اهتمامه بالحديث الصادق، ونظرته إلى أثر الحديث، في مَنْ يُحدّثون به، ما روي أنّ قاصاً كان يقرب من محمد بن واسع، ويقول في حديثه: مالي أرى القلوب لا تخشع، والعيون لا تدمع، والجلود لا تقشعر؟ فقال محمد بن واسع: يا فلان ما أرى القوم أُتوا إلا من قِبلك، إنّ الذكر إذا خرج من القلب، وقع على القلب، وفي بعضها زيادة: وإذا خرج من اللسان، فإنه لا يتجاوز الآذان.
كأنه يقول: إن الناس في أعمالهم يراقبون الله، لأنهم يعملون بطلب رضاه، لا مراءاة أو تفاخراً، وكان يتورّع عن الجلوس للقضاء والفتيا، توقِّياً عن الخلل والزّلل، مع أنه إذا سئل إنسان من أهل البصرة، من أعلم أهل بلدكم، يقول: محمد بن واسع، وقد دعاه الوالي محمد بن المنذر، فقال له: اجلس على القضاء: فأبى فعاوده، وقال: لتجلس أو لأجلدنّك ثلاث مائة. قال: إن تفعل فأنت مسلّط، وإن ذليل الدنيا خيرٌ من ذليل الآخرة، وامتنع عن القضاء لذلك.
قال الذّهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء): ودعاه بعض الأمراء، فأراده على بعض الأمور، فأبى.
فقال له: إنك أحمق، قال محمد بن واسع: مازلْتُ يقال لي هذا، منذ كنت صغيراً.
وكان يُخفي عبادته، خوفاً من الرّياء، قيل: كان يسرّ الصّوم ويخفيه. قال سعيد بن عامر: دخل محمد بن واسع على الأمير: بلال بن أبي بردة، فدعاه إلى طعامه، فاعتلّ عليه،-لأنه لا يريد أن يخبره، بأنه صائم- فغضب بلال، وقال له: إني أراك تكره طعامنا، قال: لا تقل ذلك أيها الأمير، فواللهِ لخياركم أحبّ إلينا من أبنائنا.
وكان رجلاً خشُوعاً في عبادته، مستحضراً قلبه في صلاته، روى المعتمر عن أبيه قال: ما رأيت أحداً قطّ، أخشع من محمد بن واسع، وقال محمد بن سليمان، كنت إذا وجدت من قلبي قسوة، غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع، كان كأنّه امرأة ثكلى.
ولما قال له رجل: أوصني-كما قال وروى حمّاد بن زيد، أجابه محمد بن واسع قائلا: أوصيك أنْ تكون مَلِكاً في الدنيا والآخرة، قال: كيف؟. قال: أزهد في الدنيا تكُنْ ملكاً في الدنيا والآخرة.
وكان يقول: طوبى لمن وجد عشاءً، ولم يجد غداء، ووجد غداء ولم يجد عشاءً، والله عنه راض.
وكان يقول: لو كان للذنوب ريح ما جلس إليّ أحد، يقول هذا خوفاً من الله، وبُعْداً عن الغرور، والتعاظم بما يقدّم من عباده، مع ما عُرف عنه -رحمه الله- من كثرة العبادة والطاعة لله: صلاة وصياماً، وتلاوة للقرآن الكريم، وزُهداً في الدنيا، لأنّ المؤمن يجب أن يكون في أعماله بين الخوف والرجاء.
يقول مطر الورّاق: لا نزال بخير، ما بقي لنا أشياخنا: مالك بن دينار، وثابت البُناني، ومحمد بن واسع، وأمثالهم -رحمهم الله.
وقد عُرف عن محمد بن واسع، أنه من أصحاب الدعوات المستجابة، الذين قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه، منهم البراء بن مالك)، فكان محمد بن واسع، كثير الخوف من الله، مع زهده في الدنيا؛ فقد روى عنه جعفر بن سليمان أنه يقول: إني لأغبط الرجل، الذي معه دينه، وما معه من الدنيا شيء، وهو راض.
ومن فهمه لمدلول العبادة، ودلالته الناس على ما ينفعهم في علاقتهم بخالقهم قوله: إذا أقبل العبد بقلبه على الله، أقبل الله بقلوب العباد عليه، وكان يرى أنّ العمل بالصدق، وحسن الإقبال على الله مع الورع، وليس بكثرة العمل، من دون الورع، حيث يقول: يكفي من الدعاء مع الورع يسير العمل، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الآية).
وقد ذكر الأصمعي، عن دعاء محمد بن واسع، واقعة حصلتْ في إحدى المعارك مع الترك، في بلاد ما وراء النهر وهي بلاد الجمهوريات التي انفصلتْ عن الاتحاد السوفيتي في السنوات الأخيرة، حيث ثبت فيها الإسلام منذ فتحها قتيبة بن سلم.
تلك الواقعة يقول فيها الأصمعي: لما صافّ قتيبة بن مسلم للترك، وهاله أمرهم بعد تكاثر عددهم: عتاداً وعدّة، تخوّف قتيبة وسأل عن محمد بن واسع، ليطلب منه الدعاء، ولما بحثوا عنه في صفوف الجيش وخارجه وجدوه، وقالوا لقتيبة بن سلم: هو ذاك في الميمنة، جامح على قوسه، متهيِّئ للقتال، يبصبص بأصبعه إلى السماء، يدعو ربه بالتوفيق والنصر لرفع راية الإسلام، خفَّاقة في تلك الأصقاع، والنصر على الأعداء، ففرح قتيبة وقال: تلك الأصبع أحبّ إليّ من مائة ألف سيف شهير، وشابّ طرير.. لأن قتيبة يعرف أثر الدعاء الصادق، في المواقف المدلهمة، إذا كان صادراً من رجل صالح مخلص، في جميع أموره لله سبحانه.
ولما استعرتْ نار الحرب، كان قتيبة مطمئناً، بعدما شاهد محمد بن واسع وهو مستكين أمام ربّه يدعو، فكان النصر حليف جيش المسلمين؛ لأنهم فاقوا الترك، بالتواضع أمام الله والدعاء، مع صدق التوجّه إلى الله والإخلاص له سبحانه: سراً وجهراً، وكان محمد بن واسع من بين الشهداء، لأنه بعدما عُرِف أمره: دعا الله بالنصر وأن يُقْتل شهيداً.
يقول عنه محمد بن شوذَبْ: لم يكن لمحمد بن واسع عبادة ظاهرة، وكانت الفتيا في البصرة لغيره، وإذا قيل: من أفضل أهل البصرة؟ قالوا: محمد بن واسع.
يقول الأصمعي: قيل إن سليمان التيميّ، كان يقول : ما أحب أحدٌ أنْ يلقى الله سبحانه بمثل: صحيفة محمد بن واسع.
وقال عنه كثير من علماء الجرح والتعديل، هو ثقة عابد صالح.. وقال عنه الدارقطنيّ: ثقة بُلِيَ بِرواة ضعفاء: فكان محمد بن واسع نموذجاً لرجال الرّعيل الأول، أحبّوا الجهاد من أجل نشر دين الله، والفوز بالشهادة، وحرصوا على العبادة لينالوا رضا الله.
وقد صحبه موسى بن يسار، في سفرة إلى مكة، فكان يقول عنه: كان يصلّي الليل أجمعه، وعند السير يصلي في المحمل جالساً، والراحلة تسير به.
ومن زهده في الدنيا: أنه لا يأخذ العطايا، ويلوم من يأخذها لكي يَحْسن توكّلهم على الله سبحانه حقّ التوكل.
قال ابن شوذب: قسّم أمير البصرة، على قرَّائها هدايا وعطايا، فبعث إلى مالك بن دينار، فأخذ، فقال له محمد بن واسع: قَبِلْتَ جوائزهم؟ فأجابه بقوله: سَلْ جلسائي؟ قالوا: يا أبا بكر، اشترى بها رقيقاً فأعتقهم، قال: أنشدك بالله يا مالك: أقلبُك الساعة، مثل ما كان عليه قبل؟ قال: لا.. إنما مالك يرجو عفو ربه، ويعبد الله مثل محمد بن واسع.
وجاء في كتاب (الحلية) لأبي نعيم، حكايات ومواقف لمحمد بن واسع، كما أورد أبو نعيم بعضاً من الأحاديث التي رواها محمد بن واسع، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد جاءت بالسند المتصل، حيث روى علي بن المديني: أنّ له خمسة عشر حديثاً، وكان مما أورده أبو نعيم، بسنده إلى إسماعيل بن مسلم، عن محمد بن واسع، عن مطرّف بن عبدالله الشّخيّر، عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: (تمتّعنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرتين، فقال رجل برأيه ما شاء) أخرجه مسلم أيضا في الحج، باب جواز التمتع.
أما خليفة بن خياط، فقد أورد بعضاً من سيرته في تاريخه، وقال: إنه من المحدّثين الفقهاء، وكان زاهداً عابداً، توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة (123هـ).
وقال بعض ولد محمد بن واسع رحمه الله تعالى: مات سنة سبع وعشرين ومائة (127هـ).
وكان الحسن البصري -رحمه الله- يسمَّى محمد بن واسع (زين القرَّاء).
وفي المقدمة لوفاته: رُويَ أنّ حوشباً قال لمالك بن دينار: رأيت - يريد في المنام- كأنّ منادياً ينادي الرّحيل الرّحيل.. فما ارتحل إلا محمد بن واسع، فبكى مالك بن دينار، لأنّه أدرك تعبير هذه الرؤيا، بأن محمد بن واسع قرب رحيله للدار الآخرة، وهذا من النذر، وقد تأسّف مالك عليه واسترجع.. وقيل: إنه لمعرفته بمكانته، فقد خرّ مغشياً عليه.
رحم الله علماء السلف، ما أعظم قدرهم، وما أحرصهم على أداء أمانة هذا الدين، نصحاً وتوجيهاً وعملاً وقدوة صالحة.