إن الله - سبحانه وتعالى - خلق الخلق في تمايز، واختلاف، وتعدد؛ فلكل مشاربه في العلم والثقافة والتحصيل، بل إن التفكير والإيمان بالمبادئ والمثل يختلف من شخص لآخر، نعم.. قد يتفق البعض منهم، ولكن الغالب في تباين قد تزيد نسبته وقد تقل. ومن المتباينات بين الناس القدرة على التأثير في المجتمع والبروز بينهم؛ فالبارز إذا تحدّث أصغى الجميع إلى حديثه، وإن أخبر طاشت الأقلام تحفر في الأوراق أخباره ومروياته وحديثه، وإن غاب تكدر من حوله وضاق عليهم المكان والزمان، ولكن ما إن يحضر إلا ويشع النور ويعود الفرح والحبور. وهذا لعمرك لا يتأتى لكسلان خامل خامد، بل إن هذا كله حصيلة النهل من العلوم واكتساب الأخلاق وتشربها والتعامل مع البشر بتواضع ولين جانب.
وحين تفقد من أمثال هؤلاء تتذكر الثلمة التي أخبرنا بها نبي الهدى صلوات ربي وسلامه عليه، فجبرها وسدها صعب المنال، وهكذا الحال حين تتحدث عن مرارة فَقْد الشيخ والأستاذ المربي سليمان بن إبراهيم بن محمد الدخيل أحد أعيان مدينة ثرمداء الذي وافاه الأجل المحتوم وانتقل إلى جوار ربه ودفن في مسقط رأسه بمدينة ثرمداء في منطقة الوشم، توقف قلبه ولم تتوقف دموعنا التي انهمرت عليه تترى، فارق الحياة ولم يفارق الحزن - والله - أفئدتنا، ذهب عن الدنيا ولكنه باق في مهجنا، باق بسيرته العطرة، باق بما خلد من علم وأخلاق وبما ورث من تراث تعجز عن حمله المطايا.
إنا لله وإنا إليه راجعون، يا لها من لحظة عصيبة أيها الإخوة، ويا لها من مصيبة وقعت علينا، ولكننا مؤمنون بقضاء الله وقدره، مؤمنون بأن الله لا يضيع أجر العاملين وأن الله يجزي المحسنين، ونحن هنا نحسبه من أهل الصلاح والتقوى ولا نزكي على الله أحدا، فلو نطق مسجد خالد بن الوليد - رضي الله عنه - في حي الصحن بمدينة ثرمداء لسمعت نحيبه وبكاءه على إمامه الشيخ سليمان بن إبراهيم؛ فقد مكث إماماً للمسجد سنوات تقرب من الثلاثين عاما يؤم المصلين بخشوع وصوت ندي يحرص معه على التزام السنة واقتفاء أثر السلف في ذلك وفي غيره من تعاليم ديننا الحنيف. رجل أحبه الناس لطيب معشره ودماثة خلقه، يرحب بالقريب والبعيد، لا يغلبه أحد في الكرم، ومن رآه أحبه وألفه.
ما أعجب سيرة أبي إبراهيم هذا، فإنك حين تقلب صفحات حياته ستجد العبر وستستلهم منها أيها القارئ الكريم طوق النجاة في بحر الحياة المتلاطم موجه، فأبو إبراهيم يبدأ حياته يتعلم القراءة والكتابة في كتاتيب بلدته ثم ينتظم في دراسة رسمية في مدرسة ثرمداء التي أمر ببنائها صاحب الجلالة الملك سعود بن عبدالعزيز (طيب الله ثراه)، وحين نبغ وعلا على أقرانه جعل معلماً وهو في ذات الوقت طالب في الصف السادس في ذات المدرسة، ومرت سنوات قليلة فأصبح مديراً للمدرسة، وتعاقب عليها الطلاب والمعلمون جيلاً بعد جيل وهو باق في سدة الإدارة بكفاءة وتميز أكثر من خمس وثلاثين سنة، قاده إلى ذلك حب المسؤولين له بتفانيه وتضحياته وصبره وجلده، كما قاده تواضعه وحرصه على تربية النشء التربية الصالحة ليستفيد المجتمع والوطن منهم، ثم خرج منها عندما أُحيل للتقاعد مرفوع الرأس فخوراً بنفسه وبأجيال تخرجت من المدرسة نفع الله بها الأمة، وأدرك أبو إبراهيم حينها أن عمله الدؤوب كان ولا شك متوشحاً بالإخلاص والمثابرة؛ ولذلك لم يذهب سدى.
إننا حين نبحر أكثر في جوانب حياته - رحمه الله - ونستعرضها في هذه العجالة فإننا - في الحقيقة - نبخسه حقه ونقلل من شأنه وهو علم من الأعلام، ولكننا سنعرض نتفاً تُعرِّف القارئ الكريم برجل خدم وطنه وخدم العلم والتاريخ والآثار.
ففي مجال التكافل الاجتماعي كان - رحمه الله - من المؤسسين لجمعية ثرمداء الخيرية عام 1412هـ، وكان عضواً فاعلاً من أعضاء مجلس إدارتها، يعمل فيها بنشاط وهمّة عالية، يتلمس من خلالها حاجات الفقراء والمساكين ويتعرّف على أحوالهم وجميع شؤونهم، كما كان أثناء عضويته في إدارة الجمعية يهتم بجانب التجديد والتحديث في أساليب وطرق العمل الخيري وكذلك الرقي بمبدأ التكافل الاجتماعي بجانبيه الإداري النظري والجانب التطبيقي العملي.
وفي الجانب الأدبي فالشعر عنده له عنوان؛ فقد نظم الشعر وأبدع فيه، وسطّر الأبيات وضمّن قصائده مفردات النصح والإرشاد، وعطّرها بالحث على الفضائل والتكاتف والألفة والمحبة، كما لم يغفل - رحمه الله - التأكيد على حب الوطن والسير خلف قيادتنا الحكيمة وإظهار الولاء لولاة الأمر من الملوك والأمراء.
وفي الجانب العلمي والبحث فهو فارس لا يشق له غبار ومرجع للباحثين في التاريخ وجغرافية البلدان وعلم الأنساب، ومقصد لمن يريد سبر أغوار التراث والتحقق من الأحداث والمرويات. وإن من المفرح المبكي ما أخبر به الدكتور والباحث عبداللطيف الحميد المستشار الخاص ومدير مكتب صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن طلال بن عبدالعزيز آل سعود والأكاديمي المتخصص في التاريخ وعلومه، حين قدم إلى المسجد ليودع (من شاركه همّ البحث وشاركه همّ التنقيب في التراث والآثار وشاركه في إبراز السير العطرة لحكام وملوك هذه البلاد الطاهرة حتى أطلق عليه لقب مؤرخ ثرمداء وهو بالفعل كذلك رحمه الله) ويعزي أبناءه، فقد قال الدكتور مخاطباً أحد أبناء الفقيد: (أتيت الآن من إحدى قاعات الجامعة، كنت ومجموعة من أعضاء هيئة التدريس نناقش فيها رسالة لنيل درجة الماجستير لأحد الطلاب، وقد تناول في أطروحته سيرة الشيخ سليمان بن إبراهيم الدخيل وأسهب في شكره على ما قدم له من عون، وما قدم له من رؤية علمية ثاقبة ومعلومات ووثائق أعانته - بعد عون الله - على إنهاء رسالته بيُسر وسهوله وفي وقت قياسي أيضاً، يقول - وما زال الحديث للدكتور عبداللطيف - فقمت مخاطباً الجمع المحتشد في قاعة النقاش: أيها الإخوة إن هذا الرجل الذي صدحتم باسمه وعطرتم مسامعنا بسيرته ولهجتم بالدعاء له، وبالشكر على صنيعه، مسجى في المسجد فوق نعش الموتى، وسيصلى عليه بعد لحظات من الآن) (انتهى كلام الدكتور حفظه الله). قلت: وهذا ديدن العظماء لا يتحدثون عن أنفسهم بل إن أعمالهم المخلصة وثمرات جهدهم ومن يستفيد منهم، كلها - في الحقيقة - من تتحدث عنهم وتبرزهم وإن غيّبهم الإعلام ووسائله.
إنّ فَقْد أمثال هؤلاء من الذين خدموا دينهم ووطنهم وخدموا تراث الأمة بحثاً وتحقيقاً وتوثيقاً لخسارة كبرى ومصيبة عظمى، وواجب أهل العلم والاختصاص من الأكاديميين والباحثين ودور المعرفة وأيضاً وزارة الإعلام والثقافة إبراز إرث هؤلاء العلماء وإنتاجهم الثقافي بالطباعة والنشر وإشاعته بين الناس. وحين نتحدث عن الشيخ سليمان بن إبراهيم فإننا نعلم حجم ما خلّفه من مخزون علمي ونتائج أبحاث قام بها ووثائق أضناه السفر والتنقل في سبيل الحصول عليها، وإن من الظلم للعلم والعلماء - وهو منهم - أن يظل أحد كتب الشيخ الذي قضى في جمعه وتأليفه والتحقق مما فيه من أخبار وسير أكثر من عشر سنين، أن يظل هذا الكتاب حبيس الأدراج في أحد المراكز البحثية، وأن يحال بين المهتمين بالتاريخ والتراث والاستفادة منه، وهو مرجع مهم في تاريخ المنطقة وسفر يحمل بين قراطيسه تاريخ أحداث مرت ووقائع دوّنت ومواقف حفظت، بل إنه إضافة مهمة في تاريخ بلادنا وقبس يضيء للأجيال قصص رجال ضحوا بأنفسهم وبأموالهم من أجل هذه البلاد المباركة وعلى رأسها المغفور له صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه ورحمه رحمة واسعة - ذلك المؤسس العظيم والمجاهد الكبير والملك المحنك، وبهذه المناسبة أناشد صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن طلال بن عبدالعزيز، وهو الذي تفضل - بتواضع منه - بزيارة الشيخ سليمان بن إبراهيم في منزله في مدينة ثرمداء واطلع على مقتنيات متحفه الشخصي وبعض نتاجه العلمي وتبادل معه الأخبار والأشعار، أناشده وهو الأمير المثقف والإنسان المفكر ذو النظر الثاقب، الذي يؤمن بدور العلم والثقافة خاصة حين تتدفق من ينابيع صافية وتأتي من مصدر موثوق، أن يتبنى كتب وبحوث الشيخ لتخرج بحلة زاهية؛ فيستفيد منها القاصي والداني، ويستفيد كل من اهتم بالتاريخ والأدب والتراث.
ختاماً.. أسأل الله وأقول: اللهم ارحم أبا إبراهيم واجعل مثواه جناتك جنات النعيم، اللهم جازه بالحسنات إحسانا وبالسيئات عفوا وغفرانا، اللهم نقّه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس واغسله من الذنوب والخطايا بالماء والثلج والبرد، واجعل أبناءه إبراهيم وصلاح وأحمد ومحمد وذرياتهم أبناء صالحين يدعون له، إن الله سميع مجيب الدعاء.
سعد بن دخيل بن سعد الدخيل - ثرمداء
sdokhail@gmail.com