عندما رن جرس (جوالي).. لأول مرة بعد أربع عشرة ساعة من غيبوبته، أو سكتته، كان رنين جرسه.. وكأنه يعزف في سمعي مقطوعة رقصة (الأطلسي) الشهية والشهيرة للفنان المغربي (عبدالقادر الراشدي) أو معزوفة (الحب الكبير) ببهجتها الغامرة لموسيقار الأجيال (محمد عبدالوهاب)، فقد كان رنينه يؤذن بعودة.
..الحياة إليه وإليَّ.. بعد أن اكتشف (ابني) علة سكتته، وأنها ليست في تجاوز (حده الائتماني)، أو في عدم سداد فاتورة جديدة لم أتبينها.. كما ذهب بي سوء ظني في (شركة الجوال) وعدوانيتها الشرعية وغير الشرعية المتكررة، ولكنها ببساطة في فراغ (بطاريته) من أي قدر من الطاقة ل(تشغيله)، فكان أن أوصله ب(الشاحن).. ثم طلب مني أن أدعه على حاله حتى الصباح، وها هو صوته يأتيني الآن.. ليتأكد من صلاحيته، وليذكرني ب (موعد) ذهابنا ل(حفل افتتاح) مبنى الملحقية الثقافية.. الجديد عند الحادية عشرة صباحاً.
مع تذكيري، كنت أتسارع بالهبوط من غرفتي.. إلا أن خيالي مازال على حاله الأول، في استرجاعه ل(صورة) صباحات الأحد الكئيبة في (لندن)، التي كنت قد عرفتها وعشتها وعانيت منها في الأزمان الماضية.. حيث تغلق المعارض الكبرى والصغرى أبوابها، وتفرغ شوارع وسط المدينة من المارة وعربات الأجرة والدراجات و(السايكلات).. ولا يبقى غير حافلات السياح وهي تتنقل بهم في تلك الشوارع والميادين شبه الخالية.. من موقع أثري إلى آخر، ومن كنيسة إلى معبد، ومن متحف إلى آخر.. وصولاً في النهاية إلى نهر (التايمز) لتأخذهم سفنه الفاخرة في رحلة غداء سياحية لرؤية معالم المدينة نهاراً. لقد كان صمت الشوارع والميادين يمثل جزءاً رئيسياً من كآبة صباحات الأحد في لندن، ولولا رصيف (الهايد بارك) بزحام فنانيه ورسَّاميه ونحاتيه.. ولوحاتهم ومنحوتاتهم وأشغالهم اليدوية، وآلاف الزوار من البريطانيين.. على قلتهم، والسواح.. على كثرتهم، الذين يقصدونه للاطلاع.. والتثقف أو حتى للتسكع، لطق السائحون.. كآبة في تلك الصباحات!!
وسط هذا (التوجس).. من كآبة ذلك الصباح (الأحدي) كنت أضع أقدامي على رصيف فندقي.. ليفاجئني (الشارع) بكل صخب الحياة الجميل فيه: بعابريه المختلفين أزياءً وأعماراً وألواناً، و(عربات) أجرته اللندنية التقليدية.. وقد غدت تحمل ألواناً أخرى غير لونها الأزلي (الأسود)، و(محلاته) ومعارضه المفتوح بعضها.. بل وب(المقهى) الذي فاجأني وأسعدني وجوده على نقطة تعامد شارع فندقي مع شارع (أوكسفورد)، والذي أسعدني أنه كان مفتوح الأبواب عامراً بالناس.. لأدخله مع الداخلين، ولآخذ فنجان قهوتي.. ثم أعود إلى تلك الكراسي التي التصقت في صف واحد بجدار المقهى وبينها عدد محدود من الطاولات، لأجلس على واحدة منها.. فأرشف قهوتي وأشعل (غليوني) في انتظار (ابني) الذي كان على موعده.
كان السؤال الذي شغلني.. وسط دهشتي وسعادتي بما رأيته من حولي حتى تلك اللحظات: ما الذي حدث ل(لندن)..؟
أجابني قائلاً وقد أدرك ما أعنيه: إن آخر إحصائية ظهرت.. تقول بأن ثلاثين بالمائة فقط هم الذين أصبحوا يترددون على الكنائس صباح الأحد.. أما بعض المعارض الكبرى والمحلات والمطاعم، فقد أدرك المسؤولون عنها بأن فتحها في يوم الأحد أكسب لهم من إغلاقها. وهكذا.. كان، ليصل (المستر أميني) ساعتها بعربته.. فيصطحبنا إلى منطقة (شيزويك).. حيث مبنى الملحقية الثقافية الجديد الذي سيشهد حفل افتتاحه عند الواحدة ظهراً.
***
كان مبنى الملحقية الثقافية القديم.. بميدان (بيلجريف)، يقوم في وسط المدينة.. وفي أرقى مواقعها حيث كانت تشغله السفارة السعودية قبل أن تنتقل إلى مبناها الجديد، الذي سعدت فيه بلقاء لا ينسى مع معالي الصديق الشاعر والفنان الدكتور غازي القصيبي.. إبّان سفارته لبريطانيا، لكن المبنى القديم ورغم جماله ووجاهته وقرب موقعه.. إلا أنه بدأ يضيق بأعداد الطلبة المبتعثين الذين يترددون عليه، ثم تحول إلى شيء يشبه مبنى أمانة مدينة جدة القديم في أيام (توزيع) منح الأراضي.. من شدة الزحام، خاصة بعد أن اعتمد الملك عبدالله بن عبدالعزيز في بواكير ولايته.. برنامجه الوطني الأعظم والأهم: (برنامج خادم الحرمين الشريفين.. للابتعاث).. حيث فُتحت أبواب الابتعاث على مصراعيها لخريجي الثانوية العلمية عموماً، وللمتفوقين من حملة (البكالوريوس) و(الماجستير)... لمواصلة دراساتهم العليا، فكان أن ارتفع عدد المترددين على (المبنى) مع تواصل قدومهم، وتزايده.. من ثلاثة آلاف.. إلى خمسة.. إلى سبعة.. إلى عشرة.. إلى أربعة عشر ألفاً، إلى جانب مرافقيهم الذين بلغوا أحد عشر ألفاً.. حتى أصبح المبنى أشبه ما يكون بعلبة (ساردين) كبرى، تضم هذه (المدينة) من المبتعثين وليس (ملحقية المبتعثين) ومرافقيهم.. على وجه الدقة، فكان لابد من الانتقال إلى مكان آخر.. يستوعبهم، أو السعي إلى إقامة مبنى جديد.. يسهل الوصول إليه، والتجمع فيه.. وإن بَعُد بعض الشيء عن قلب المدينة، فكان أن بدئ في تشييد هذا (المبنى) في آخر سنوات الملحق الثقافي السابق العتيد والمحبوب: الأستاذ عبدالله الناصر.. ضمن (برنامج خادم الحرمين الشريفين.. للابتعاث) نفسه، الذي أشرف عليه، ووضعه موضع التطبيق الفعلي والعملي.. ول(كل) أبناء الوطن.. كوكبة من الرجال المخلصين في مقدمتهم وزير التعليم العالي نفسه الأستاذ الدكتور خالد العنقري، الذي تدهشك بساطته عندما تقترب منه.. بقدر ما تدهشك حيويته ومقدرته في إدارة هذا البرنامج الابتعاثي الهائل والممتد عبر القارات.. من بريطانيا وأيرلندا إلى فرنسا وإسبانيا وسويسرا وبلجيكا والنمسا وألمانيا وإيطاليا وبولندا في (أوروبا).. وإلى كندا والولايات المتحدة في (أمريكا الشمالية).. وإلى اليابان والهند وماليزيا والصين وكوريا الجنوبية في (آسيا).. بل وإلى (نيوزيلاندا) و(أستراليا) على المحيطين الهندي والهادي.. حتى بلغ عدد المبتعثين فيه عبر السنوات الخمس الماضية واحداً وستين ألف مبتعث في معظم التخصصات العلمية والتطبيقية. لقد قلت له عندما لقيته في المبنى.. وقبيل أن تبدأ مراسم الافتتاح: من الحق أن نسميك وزير التعليم العالي والابتعاث الخارجي..
فرد بتواضع: إنما الفضل يعود لصاحب القرار.. لصاحب البرنامج.. لخادم الحرمين الشريفين.
قلت: نعم.. وألف (نعم)، ولكن من حسن حظ هذا البرنامج المستقبلي الحضاري الرائع.. أن وُضع في يدك ويد هذه الكوكبة من الرجال الأفذاذ الذين اخترتهم من أمثال الدكتور عبدالله العثمان.. سابقاً، والدكتورين عبدالله الموسى، وعلي العطية.. لاحقاً، ويد هؤلاء الملحقين الثقافيين الذين وُفقت في انتقائهم، وترشيحهم وتزويدهم بكامل الصلاحيات لأداء هذه المهمة الجليلة.. من أمثال الأستاذ عبدالله الناصر، والأستاذ الدكتور غازي مكي، والدكتور عبدالله الخطيب، والدكتور عبدالرحمن الحميضي.. إذ لولا ذلك لما امتد (البرنامج) ليشمل هذه الآلاف من شتى بقاع الوطن، ولما كان الإحساس به على هذا النحو المشبع بالتقدير والامتنان ل(مبادرة) خادم الحرمين (الخلاقة) حقاً.. في مبناها ومغزاها، ف(التطوير) والتغيير ومحاولة دفع أبناء الوطن إلى مقدمة الصفوف.. لا يتحقق إلا من هنا. من هذا الابتعاث المكثف والعريض.. من هذا الخروج إلى عوالم وعلوم أخرى.. وثقافات أخرى.. لعلها تخلخل - بعائدها العلمي والثقافي.. فيما بعد - من بنية التخلف التي يشكو منها (الوطن).
***
لم يطل بنا الوقت.. حتى نصل إلى مبنى الملحقية الثقافية الجديد في منطقة (شيز ويك).. لنرى (المبنى) بارتفاع أدواره الثلاث، وعرضه الممتد، واستقلاليته الملفتة مكاناً.. فنتأمل طوب جدرانه الأرجوانية.. المرصوصة بعناية، ونوافذه الزجاجية اللامعة، وسلالمه الرخامية العريضة العالية السوداء.. التي شغلت مدخله، وقد تكاثر عليها بعض من كبار موظفي الملحقية وجمع من المبتعثين.. لاستقبال المدعوين والضيوف. كان المبنى بألوانه الراقية.. وسط ذلك الصباح الربيعي الغائم.. وكأنه (عريس) ينتظر لحظة فرحه. لحظة افتتاحه.
بين ترحيبات حارة، وعناق أكثر حرارة، وتهانٍ يتبادلها الجميع.. كانت نخبة تلقائية من ذلك الجمع تأخذ طريقها برفقة الدكتور غازي - عبر أحد المصاعد - إلى (مكتبه) في الدور الثالث، الذي بدا رحباً جميلاً.. في غير إفراط. جامعاً بين أعلى درجات البساطة والأناقة.. في غير تكلف، ليمطر ملحقنا الثقافي في (باريس).. الدكتور غازي بأسئلته: مَن ومتى.. كيف وكم..؟ فلم تتوقف أسئلته إلا مع وصول الدكتور العنقري وصحبه، وانشغال الجميع بأحاديث الفرحة بإتمام إعادة (صياغة) هذا المبنى، في مدينة يصعب أن تقيم فيها جداراً أو تزيل جداراً، أو تفتح نافذة جديدة أو تغلق أخرى قائمة، أما (الأشجار).. فإن لها من الحرمة ما لا يخطر على البال..!
مع رشفات من القهوة العربية، وتناول حبات من التمر القصيمي الفاخر الذي أحضرته (السفارة) أو الملحقية احتفاءً ب(المناسبة).. كان سمو السفير الأمير محمد بن نواف قد وصل إلى مقر (الملحقية) لرعاية حفل افتتاح المبنى بمشاركة معالي وزير التعليم العالي، لينتقل جمعنا.. إلى قاعة الاحتفالات بالدور الأرضي، التي كانت غاصة بالمدعوين والضيوف وعدد من أوائل المبتعثين والمبتعثات إلى بريطانيا وأيرلندا.. ليبدأ حفل الافتتاح في موعده - عند الواحدة ظهراً - تماماً.. ب(القرآن الكريم).. ف(فيلم) تسجيلي موضوعي دقيق عن مراحل إعادة بناء المبنى كلية من جديد، منذ شرائه وإزالة كل موجوداته وتحويله إلى (هيكل) أسمنتي.. إلى أن تمت إعادة صياغته على هذا النحو الجديد والرشيق والعملي الجميل، والذي كان الجمع في تلك القاعة يحتفل به.. ليلقي نجم الافتتاح الأمير محمد بن نواف كلمته التي فاجأتني ب(لغتها) وفصاحتها وكمال وجمال أدائها إلى جانب خلوها من المديح الزائد والزائف الذي اعتدناه وألفناه في كثير من أمثال هذه المناسبات.. حتى لأحسب أن تصفيق الاستحسان الذي انتزعه من الحاضرين في ختامها.. إنما كان تقديراً لجدارته وإعجاباً بأدائه غير المتكلف.. بأكثر من كونه مجاملة له أو لاسمه أو منصبه، ثم تلاه بعد ذلك.. صاحب (العرس) - أو.. والد العريس - الأستاذ الدكتور غازي عبدالواحد مكي.. الملحق الثقافي السعودي لكل من بريطانيا وأيرلندا.. ليكمل (بانوراما) مشهد الاحتفال بتلك الإضافات (المعلوماتية) الهامة عن إعداد المبتعثين، ومرافقيهم ونسبة المبتعثات بينهم.. التي بلغت 17%، وهو ما يعني أن هناك أكثر من ألفي مبتعثة، وهو رقم يثلج - بإنصافه - الصدور ويسعد القلوب، وعن المصاعب التي تم التغلب عليها.. في نقل ملفات الأربعة عشر ألف مبتعث ومبتعثة من مقر الملحقية القديم.. إلى مقرها الجديد، وكيف أمكن - بتوفيق الله - من تجاوز إغلاق الملحقية أثناء فترة الانتقال.. إلى ثلاث ساعات من بعد صلاة آخر جمعة في المبنى القديم، ثم كان الأجمل في خطابه.. هو الإشادة بجهود سلفه الملحق السابق الأستاذ عبدالله الناصر.. الذي امضى في هذه الملحقية أكثر من عشرين عاماً من النجاح ومحبة المبتعثين والمبتعثات، فالإشادة بجهود زملائه من القياديين والقياديات.. في إنجاز هذا الانتقال السلس والجميل، وكان لطفاً منه ومن الملحقية أن تُعد (دروع) تكريم لهم جميعاً.. قام بتسليمها لكل واحد منهم سمو السفير الأمير محمد بن نواف، وإذا كان الأستاذ عبدالله الناصر.. غاب عن حضور هذه المناسبة لانشغاله بعمله الجديد في (مجلس الشورى).. وقد بحثت عنه ولم أجده، فإن ابنه المبتعث (تركي بن عبدالله الناصر).. قد ناب عنه بالحضور.. وفي تسلم الدرع الخاص به نيابة عنه.
***
في أقل من ساعة.. كان حفل الافتتاح الخطابي قد انتهى لينتقل الحاضرون إلى حفل استقبال لندني سريع، نُصبت له خيمة بيضاء.. وكأنها سقف من غمام.. على أرض (المواقف) خلف المبنى، فما كان أطول من سابقه.. لأنصرف مع المنصرفين بعدها، ليقول لي ابني: ما رأيك.. في أن نذهب إلى (هارودز)..؟
قلت مندهشاً مستنكراً: (هارودز).. وفي يوم الأحد!! ما هذا الذي اسمعه.. أأنت متأكد..؟
قال: نعم.. وسترى بنفسك.
أخذنا (المستر أميني) - الذي كان منبهجاً بالافتتاح وحفله وكأنه أحد حضوره وجلوس الصف الأول فيه - إلى قلب المدينة ثانية.. وإلى شارع (نايتس بريج).. حيث مبنى (هارودز) التاريخي العتيد الذي يوازي في شهرته: ساعة (بيج بن) ودوران (البيكاديلي) ومحطة (ووتر لو).. بل وكنيسة (الوست مينيسترابي) نفسها أشهر معالم العاصمة البريطانية.
لقد هالني بقدر ما أسعدني.. وجود الناس بهذه الأعداد.. وهذه المقاهي العامرة بحضورها.. وهذه المحلات الصغيرة والكبيرة المفتوح بعضها والداخلين إليها والخارجين منها، لنتناول غداءً شهياً سريعاً - بناءً على اقتراح ابني - من يد (النادل) مباشرة ونحن جلوس حوله.. بأحد مطاعم الدور الأرضي بمتجر (هارودز).. عند الرابعة عصراً..!!
لأقول لنفسي مع مغادرتي المبنى: يبدو أن (التابوهات).. اللندنية المقدسة.. قد أخذت تتهاوى!! لا بل أخذت طريقها إلى الزوال!!