أُصيب المجتمع كلُّه بألم وقلق بعد خروج فئة من أبنائه وبغيهم على الوطن قيادة وشعباً، ومكتسبات مادية ومعنوية، سفكوا الدماء، وفجّروا وروعوا، وتطاولوا على العلماء، وشوّهوا صورة بهية وقرت في الأذهان جمالاً وبهاء، ولطالما تسامت وتباهت واحتلت مكانة مرموقة بين الأمم والشعوب.
ومما زاد من شدة الألم، ووتيرة القلق مجانبة الصواب في تشخيص الحالة, والوقوف على منابعها ومصادر تكوينها، فقد شرّق البعض وغرّب وهو يشخّص الحالة التي صاحبت صور الخروج والبغي، واستغل البعض مكانته، وآخر قلمه، وثالث هواه، فوجهت السهام تلو السهام تترا إلى جهات محددة، دون تحقُّق أو تبيُّن، أو اعتماد على حقائق مبنية على دراسات علمية يقينية قاطعة في دلالاتها على أن تلك الجهات هي محاضن التكوين والإعداد والتجهيز، كلكم يعرف هذه الجهات من كثرة ما كيل ضدها من اتهامات، وما قيل عنها تخميناً وظناً، التعليم ممثلاً في المعلمين وبرامج النشاط، وحلقات التحفيظ، والخطباء والدعاة، وغيرهم ممن يعد من ذوي التوجهات المتدينة.
وقبل تناول ما قاله (العوفي) لا بد من التنويه إلى أن الجهات المشار إليها آنفاً لا تخلو من خارج عن الإطار العام الذي يحكم سياسة التسيير ومنهجه في هذه الجهات، لكن أجزم يقيناً قاطعاً بأنها تخلو مما يعد تنظيماً يحتضن هؤلاء الخوارج ويعدهم ويوجههم، ويحرضهم على البغي والعدوان، وهذا ما يؤاخذ على أولئك الذين تصدوا لتناول الأحداث وتحليلها، حيث عدوا تلك الجهات مسؤولة عن هؤلاء، تتحمل وزر أفعالهم وتبعات عدوانهم وما حصل منهم، وهذا أمر دحضه (العوفي) وفنده.
والآن وبعد أن ثاب (العوفي) إلى رشده، وعاد إلى وطنه، وتحدث بلسان عربي صريح، يجدر بالباحثين عن الحق الإنصات إلى حديثه، وتحليل مقاله، واستقراء مضامينه الواضحة التي لا تخفى إلا على ذوي العقول التي تأبى أن ترى البصائر إلا مقلوبة حسب الهوى، ومشوهة بسبب التحيُّز الظاهر ضد تلك الجهات.
ماذا يستنتج من حديث (العوفي)؟
لقد تبين من حديثه أن لغته بسيطة، وعباراته ركيكة؛ ما يدل على أنه غير متمكن في مستوى التعليم، ولا يمكن أن ينسب إلى فئة العلماء أو الدعاة، وبالتالي فهو كما غيره مجرد أداة ألهبت عواطفه واستُغلت حماساته وزُجّ به في أتون مواقف لا قِبل له بها ولا استطاعة عليها، تأملوا قوله: (يقولون) أي قادة القاعدة، الذين زجوا به وأمثاله (أنتم القيادة العسكرية، لازم تخرجون) ومؤهلات الخروج عند زبانية القاعدة، لبس عمامة، يسنده إعلام يبث رسائل مكتوبة، فالرسالة التي أشار إليها العوفي ليست من صنعه، وعندما لم تعجبه بعض كلماتها وطلب تغييرها قالوا له: لا. إذاً فمضمون الرسالة لا يعبر عن قناعات العوفي، ولا عما يؤمن به؛ فالرأي والفكرة التي تحملها الرسالة ليسا من عنده، بل هما يعبران عن قناعات رموز القاعدة ورغبتهم في إظهار القوة، وطلب الدعم، والعوفي مجرد أداة تنفيذ فقط. وأشار إلى الخطط العسكرية، المتمثلة في التوجه إلى زرع الخلايا المتفرقة في الجبال، بعد انتكاسة خطط القاعدة في المدن، فهذه الخطط ليست من صنعه، بل هو والمغرر بهم من أمثاله مجرد دمى مسلوبة الرأي والحرية والعقل تحرَّك في خلايا الإرهاب وتُدار من قِبل زبانية القاعدة ومن يساندها بالمال.
ومن ضلالات القاعدة التي شوهت بها عقول هؤلاء المغرر بهم وحرفتهم عن جادة الحق، قولهم: تطهير ما أطلقوا عليه بلاد الحرمين وجزيرة العرب (من الكفار) باعتبارها معقل الإسلام، والأصل الذي يجب البدء به، وعلى الرغم من أن فطرة (العوفي) السليمة أبت تكفير المعين، لكن جبروت زبانية القاعدة وإملاءاتهم أجبرته وزملاءه المغلوب على أمرهم على قبول مفهوم تكفير المعين.
والقول الفصل الذي قطع قول كل خطيب يتمثل في أن من وراء الكواليس مَن يدعم هؤلاء الأفراد ليس (أفرادا وأناسا) بل هناك (دول تقود هذا الأمر، دول استخباراتية تقود هؤلاء الأفراد باسم المجاهدين)، تقدم الدعم المالي السخي من أجل زعزعة الأمن في المملكة.
وبعد هذا القول الفصل، يجب أن نعي أن الشر آت من الخارج، ولم يُستنبت من الداخل، أتى من دول تكره المملكة وأهلها، ويسوؤها أن تستقر وتنعم، فوجدت ضالتها في فئة من أبناء المملكة قليلة العلم والفقه، فألهبت عواطفهم واستغلت مشاعرهم، وملأت عقولهم الفارغة بمفاهيم التدمير والتفجير والتكفير والقتل.
وفي هذا رد لتلك الاتهامات التي كالتها أقلام بإصرار ومبالغة ضد مؤسسات التربية التي شوهت أدوارها ورجالاتها، في الوقت الذي كانت فيه الوزارة ترعى العقول بهدي مستنير من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى رفض كل فكر ضال منحرف عن منهج الحق، وكيلت ضد حلقات تحفيظ القرآن التي ترعى الفضيلة والاستقامة، وتنشئ الأجيال على حفظ كتاب الله؛ لتهتدي به منهاج حياة، تلك الأقلام التي ساءها الخير الذي يتحقق في هذه المؤسسات وعلى أيد أمينة على الوطن وأهله، وبعد هذا هل تكف هذه الأقلام أذاها؟
نرجو ذلك.