Al Jazirah NewsPaper Friday  08/05/2009 G Issue 13371
الجمعة 13 جمادى الأول 1430   العدد  13371
أهل القرآن
د. هدى بنت دليجان الدليجان *

 

من سنن الله في خلقه وتدبيره الحكيم في كونه سنة الاصطفاء والتميز والاختيار، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}(75) سورة الحج، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}(78) سورة الحج، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله) أخرجه ابن ماجة؛ ح(4288).

فمن هذه النصوص الكريمة نعلم يقينا أن التميز والاصطفاء هو سنة ماضية في الأمم قدرا وشرعا، ولقد تفاضلت الأمم فيما بينها عبر تاريخ البشرية الطويل، ويحفظ التاريخ لكل أمة في القديم والحديث ذاتية متميزة بها عن غيرها من الأمم (زاد المعاد لابن القيم 1-39- 40).

وإن كان تميز الأمم يرتكز على المواهب والقدرات الذاتية، فإن مما يميز الأمة الإسلامية كتابها المنزل من لدن حكيم عليم، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(9) سورة الحجر، فهذا من أهم الجوانب العظيمة التي تميزت بها الأمة الإسلامية بين الأمم وإلى قيام الساعة، فهي أمة عربية، أنزل الله تعالى عليها كتابه بلسان عربي مبين، وأرسل إليهم رسوله النبي الأمي العربي من أنفسهم، ليكون ذلك شاهدا على تكريمهم وإعزازهم، ويسر حفظ القرآن الكريم بين أبناء الإسلام وحسب ذلك إلى قلوبهم ليكونوا من أهل القرآن المتميزين، فمن حفظ القرآن الكريم جد وعظم في عين أمته.

وكان من نعم الله عز وجل على أهل القرآن أنهم متميزون في جميع المجالات، وكان اهتمام ولاة الأمر في هذه البلاد بدور وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم في جميع أصقاع المملكة وربوعها دلالة خير وهدى وزيادة نماء وازدهار، وما مسابقة الأمير سلمان بن عبدالعزيز لحفظ القرآن الكريم في الدورة الحادية عشرة إلا دلالة على صدق وإخلاص القائمين عليها - نحسبهم كذلك - وتنافس المئات من طلاب المدارس والجامعات وطالباتها إلا دلالة على وعي وتحضر وتميز حقيقي في الفهم والسلوك.

لذا كان من الأجدر بأهل القرآن في كل مكان أن يحافظوا على هذه الصفة المميزة من خلال ما يلي:

المجال الأول: التميز العقدي: قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(85) سورة آل عمران، فأهل القرآن يحافظون على عقيدتهم في الدنيا والآخرة لأنهم متميزون بها بما يلي:

- الوسطية في العقيدة، فلا غلو لديهم ولا تنطع، ولا إفراط ولا تفريط.

- السهولة والليونة، فليس لديهم تعقيد ولا غموض ولا خفاء، ولا فلسفة عقلية ولا شطحات ذوقية، ولا رهابنية مبتدعة، ولا آصار ثقيلة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار على كل قريب هين سهل) أخرجه الترمذي ح(2488) وقال: حديث حسن غريب.

- الجماعة والاجتماع، فهم يدعون إلى وحدة الصف، ونبذ الخلاف والفرقة، ويرتبط أفرادها بوشائج الحب والمودة والرحمة والتكافل الذي يضمن الحقوق ويؤدي الواجبات في المجتمع.

- التفاؤل والأمل، فلا يأس ولا إحباط، ولا تشديد ولا تعسير، بل أهل القرآن مأمورون بالتبشير والتيسير والبعد عن التعسير والتنفير.

المجال الثاني: التميز الشرعي: قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}(110)سورة آل عمران، فأهل القرآن متميزون في العبادات لأن الشريعة التي أنزلت وحفظت من أجل دوام خيرتهم إلى قيام الساعة.

- الاعتدال والمداومة، فأهل القرآن أهل عبادة بالقدر الذي يطيقونه، فلا زيادة ولا ابتداع، قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (286) سورة البقرة.

- العدل والمساواة في التشريعات لأنها تشمل الذكر والأنثى، والغني والفقير، والأمير والحقير.

- الرحمة والرفق في الأحكام: فهي ترعى الضعيف، وتعين المحتاج وتدعو المجتمع بأكمله إلى التآزر والتكاتف من حيث التشريعات المفروضة أو السنن المندوبة أو فتح أبواب السماء للسائلين.

المجال الثالث - التميز الأخلاقي: قال تعالى: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ}

(138)سورة البقرة، قال ابن القيم - رحمه الله - (الدين

كله خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين) مدارج السالكين لابن القيم (2 - 265).

فشخصية أهل القرآن شخصية خلوقة متميزة بعطائها الذي لا ينضب، وبتعاملها الحسن الكريم مع جميع أفراد المسلمين وجماعتهم داخل البناء الاجتماعي الواحد، أو مع غيرهم من المخالفين من الأمم الأخرى، سواء كانوا معاهدين أو ذميين في السلم والحرب.

وما تميزت أمة بأخلاقها كما تميزت الأمة الإسلامية بأخلاق القرآن الكريم، فضربت أروع الأمثلة في الإحسان والتعامل بالقسط ووجوه البر إلى المخالفين.

المجال الرابع - التميز العقلي:

فالإسلام دين العقل والتفكر، وهو يدعو إلى التأمل والتدبر في كتاب الله المسطور وكتابه المنشور، ولن يحقق أهل القرآن خلافة الله الحقيقية إلا بإعمار الأرض وتنمية الذات، وتعزيز العقل الإسلامي بالبحث العلمي كرافد من روافد بناء الطاقات العقلية والمواهب الإبداعية فتحقق الاستقلالية الفكرية، وتبتعد عن التبعية المذلة والتقليد الأعمى لكل سلوك لا يليق بأهل القرآن.

فيجب على أهل القرآن أن يكونوا أحد الشواهد على الأمة المبدعة، التي لها وزنها في مصاف الأمم المتقدمة، خاصة مع سقوط الحواجز الجغرافية وسهولة الاتصالات العالمية، والوقوف أمام محاولات إشعار نار العداوة ا لبينية في الشعوب، وإذكاء نار فتنة تصادم الحضارات.

وليكن أهل القرآن كما أراد الله تعالى أصحاب رسالة عالمية، يرحمون العالمين، ويبذلون المجهود، ويتميزن في تفكيرهم وأقوالهم وأعمالهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (70-71) سورة الأحزاب.

والله أعلم.

* أستاذ مشارك في التفسير وعلوم القرآن
كلية التربية - جامعة الملك فيصل بالأحساء



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد