إن القارئ المتعلّق بالكتب ومعرفتها، ويتمنى مطالعتها، لكنّ العصر أصبح عصر سرعة، وتعدّد المصادر للثقافة، مع كثرة الكتب التي تدفعها المطابع، متنوعة المشارب، فأصبح لا يدري ما يأخذ، ولا بما يدع كما يقول الشاعر:
|
تكاثرت الضباء على خراش |
فلا يدري خراش ما يصيد |
إلا أن الكتاب الجيّد يفرض نفسه وخاصة عندما يُعْرض في قراءات: تعطي فكرة عنه وعن مؤلفه وموضوعه، وما بين أيدينا هو واحد من كتب معالي الدكتور: عبدالعزيز الخويطر وهو: الجزء الثالث عشر من لمحات من الذكريات، تلك الذكريات التي تحكي جزءا من سيرة حياته، ومسيرته مع جامعة الملك سعود، في أيامها الأولى، وما مرّ بها من ذكريات ومواقف، يعرضها بأسلوبه الشيق الممزوج بالمواقف الطريفة، التي تحكي هذه الذكريات، وما لها من طعم في مخيلة القارئ.
|
ومع اتساع دائرة ما يقدم، للقراء وللمكتبة المحلية، فإنّ المؤلف تواضعاً منه سماها: (لمحات من الذكريات).
|
وهذا الجزء يقع في (550) صفحة، تقع مادة الكتاب في (455)، صفحة، والباقي صور ووثائق وفهارس.
|
يمتاز هذا الجزء بلمسات من الوفاء، وثناء على العاملين معه في الجامعة، وهو السعودي الوحيد بينهم، وهم في دور التأسيس، وتثْبيت القواعد، فسار بين الصفوة من العاملين والمخلصين، في عملهم وبجدهم، في الاجتماعات والمجالس التنظيمية للجامعة الفنية، فقدر لهم جهدهم وخبراتهم، حتى استحقوا منه عاطر الثناء منه، مع الترحم على من مات منهم: وفاء وتقديراً.
|
وبرزت النتائج، بعد فترة وجيزة من الزمن، إذْ بدأت طلائع السعوديين المؤهلين تفد، وكان أولهم د. رضا عبيد، الذي تعاضد معه، وسدّ ثغرة مهمة في دور تأسيس الجامعة.
|
وهذا السفر الممتلئ بالمعلومات المهمة، يحكي مسيرة العمل، والأدوار المباركة التي بذلت، ليتعرّف القارئ على جوانب من معلومات مهمة وجديدة على الغالبية العظمى، إلا أن المقدمة من ص5 إلى ص17، قد وضع فيها الصُّوى على معالم الطريق ليخبر القارئ عن منهجه ففيها يقول: هذا هو الجزء الثالث عشر، من: (وسم على أديم الزّمن) وهو عن ذكرياتي بعد أن عُدْتُ إلى المملكة، والتحقت بالعمل الحكومي: سكرتيراً للجامعة (أميناً عاماً لها)، في بادئ الأمر ثم وكيلاً لها).
|
وهذا الجزء هو الثاني لمذكراتي في المملكة، وهذا الجزء الثالث عشر، مركز على عملي في الجامعة، في حقبة الإنشاء، التي مرّت بها، ولذا جاء بعض الوصف لمباني الجامعة، وما مرّت به من خطوات، واحتوى على أمور الأساتذة المتعاقدين، والمعيدين ورؤساء المعامل والمحضرين، وما بذلنا من جهد لملء الفراغ التي تمرّ به الجامعة، وتهيئة المعيدين للابتعاث إلى الخارج.
|
ولعل أبرز ما جاء في هذا الجزء، ما جاء عن معهد الإدارة وإنشائه، وخطوات مسيرته، حيث كان واحداً من مجلس إدارته، ثم ما حرصوا على تنظيمه في التعاقد والامتحانات، والدقة في إجراءاتها، فكانت سبباً في الاعتراف بالجامعة عالمياً، بعد أن تتابعت الزيارات والاجتماعات، مع الجامعات، العالمية، وبذلت المساعي في دعوة رؤساء الجامعات الكبيرة وعمدائها ليقفوا على مكانة الجامعة، من جميع النواحي، كما عقد اجتماعات للنقاش في مكانة الجامعة وبرامجها، مع الجامعات العربية والعالمية.
|
فكان من توفيق الله، أن وفد كبار العلماء والباحثين، من الجامعات، وفي مجالات تخصصية متعددة، فتعاون الجميع وخاصة من المتعاقدين القادمين من بلادهم، بمراكز عالية: في المستوى العلمي والبحثي، وتفانوا سوياً في العمل: تنظيماً وإدارة وعملاً متواصلاً، وأبانوا محبتهم للمملكة، فحازوا على مكانة من المسؤولين لوفائهم، ووفى لهم الدكتور عبدالعزيز في كتابه هذا إشادة الفضل لأصحاب الفضل، وإشادة بما برز منهم من إخلاص، ومحبة في العمل الذي أبرز مكانة هذه الجامعة، ويلمس المتابع لهذا الكتاب ما طوّق المؤلف، كل واحد منهم، أثناء ووفاء وعرفاناً بالدور المبذول.
|
إذْ كان منهم من يعمل بدافع وجداني، وبروح عالية وضمير صادق، ودون تحديد الوقت، بل منهم من يأخذ طلابه في تطبيق عملي، بإجازة الأسبوع، وغيرها في رحلات جغرافية، لما حول الرياض، في وادي حنيفة وفروعه، وغيره من الأودية والجبال، لدراسة الآثار الجيولوجية، وعوامل التعرية، في تحديد العمر الزمني، لنوعيات من الحجارة، وترغيب الطلبة بما شرحه لهم عن علامات العمر الزمني لنوعيات من الحجارة، والعصور التي تنتمي إليها أثرياً.
|
كما كان المؤلف يحرص في مناسبات كثيرة، كالأعياد ورمضان وغيرها، بأخذ مجموعة من العمداء والمختصين للمسؤولين والعلماء للسلام عليهم، كالملك فيصل والشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية، وعبدالعزبز بن باز ووزير المعارف عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن، والشيخ عمر بن حسن رئيس الهيئات وغيرهم، وهذه الزيارات ذات أثر في تمكين الرابطة العلمية، وتقوية مكانة الجامعة.
|
فكانت الدعوات لأساتذة الجامعات، والمختصين فيها، ومنهم مستشرقون في تخصصات مختلفة تتوالى، وتحدث أحدهم فكان من جملة ما قال: إنّ الإسلام انتشر في أفريقيا، لأنه ذو جاذبية في الدين، لا يتيحها الدين المسيحي، فهو يسمح بالزواج من أربع، في حين أن الدين المسيحي يحرّم بأكثر من واحدة، فردّ عليه د. ديفيد كون وهو إنجليزي مسلم ومتزوج من عربية مسلمة، وقال: إن الإسلام انتشر، لأنه يساوي بين الناس، ولا يميز أحداً عن أحد إلا بالتقوى، أما موضوع الزواج من أربع، فالمفروض أنه ينفر الأفريقيين، لأنهم قبل أن يسلموا، كانوا يتزوجون أربعين، وأحياناً بلا حدود، وقد أشرت إلى هذا، مدة بقائي في انجلترا في مذكراتي (ينظر ص207 - 209).
|
وبيّن المؤلف أنه هو والمسؤولين في الجامعة، عندما بدأ الاهتمام بالمعيدين، وابتعاثهم ليعودوا أساتذة سعوديين يحتلون مراكزهم في الجامعة، بقوله: لا تسل عن فرحتي عندما تركت الجامعة، ورأيت حصيلة جُهدي مع الزملاء في الجامعة، في تهيئة ثلاثين، حامل دكتوراه في عام 1391هـ عادوا وبدأوا يدرسون، وفي الخارج كان هناك سبعون ثم مائة وخمسون، ثم في آخر العام وصلوا إلى (290) دارساً.
|
وكنا سعداء بهذا الإقبال على التدريس، ولم يكن لذلك آفة، إلا اختطاف الوزارات المتعطشة للمتعلمين تعليماً عالياً، واختطاف الدوائر الأخرى، ومع هذا لم يكن هذا يزعجنا كثيراً، لأن ما وصلنا إليه، في مدة قصيرة، ما كنا نحلم به، وكنا والبلاد تمر بفترة ازدهار، يجد المتعلم فيها ترحيباً حاراً (تنظر الصفحات 244 - 249).
|
وفي الزيارة للتعاقد من القاهرة مع هيئة التدريس، كانت مدينة نصر من ضواحي القاهرة، جديدة وسبقتها دعاية عارمة، ولحقها ما جعلها مقصد كل سائح، لأنها من إنجازات الثورة، فحرص المؤلف مع بعض الإخوان على زيارتها، ليروا مدى انطباق الواقع على ما قيل، فلم يجدوا ما توقعوه إلا خيالاً، جمح به كما جمح بكثير ممن سمع الدعاية، إذْ وجد أن مدننا وخاصة الرياض قد فاقت ما رأوا في مدينة نصر، بالوزارات والمباني العديدة، وتوسّع، الرياض بخطوات إلى الصحراء بالعمران الجميل (من ص342 - 346).
|
حيث اجتذبت النهضة في المملكة، خيرة المهندسين والمقاولين في مصر، وخاصة في المنشآت الحكومية في الرياض.
|
والمؤلف مع المعلومات النظامية التي أوردها، والإنجازات التي تمتْ في الجامعة، ومعهد الإدارة الذي تأسس في نفس الفترة كل هذا أبان أهمية ما سعت فيه الدولة، من استقدام استشارات نافعة للجامعة وتأسيسها، ومعهد الإدارة وإدارته مع الاستفادة عملياً في العمل، مع ذوي الشأن ميدانياً، حتى أنه ذكر استقدام من تفوق معه من ذوي المناصب العالية، أمثال عزت النّص من سوريا الذي كان رئيس الوزراء في سوريا، والدكتور مصطفى عامر وغيرهما.. فقدرتْ المكانة الاجتماعية لكل منهم، بالمرتب الذي يفوق راتب المؤلف بكثير، وبتخصيص سيارة وسائقها تحت تصرف كل واحد من ذوي المكانة، وإعطاء امتيازات خاصة جعلتهم يخلصون ويتفانون.
|
ولا شك أن هذا قد ترك أثراً في النفوس، وإخلاصاً في العمل، وتقديم الخبرة والاستشارة ففرحوا حباً للبلاد وأهلها من هذه المكانة التي أحيطوا بها، وديننا يحث على ذلك: (انزلوا الناس منازلهم)، و(إنكم لن تسعوا الناس بأرزاقكم، ولكن يسعه منكم حسن الخلق وبسط الوجه).
|
وما جاء في هذا الكتاب، من معلومات كثيرة، ومواقف ظريفة، التي أُوردتْ في ثناياه، مما لا يتسع لها العرض ولا التعريف في مقال واحد، مع أنّ موضوع، ما كتبه: سواء ما يتعلّق بالمرتبات أو مكافأة الطلبة، أو البدلات أو الإجازات، أو الاستعانة بشخصيات من كبار العاملين في الجامعة، أثناء إجازتهم الصيفية، للتعاقد وجذب النوعيات الممتازة وغير هذا من أمور، قد أعطاها حقها، من الدراسة والإفادة، وحققت نتائج إيجابية عادت على الجامعة بالفوائد، إضافة إلى ما يتحلى به كتابه: بالظرافة وخفة الظل، ويمزجها بتوابل مُشهية: بالمزاح والمقالب والحكايات والنوادر، التي تزيل السأم، وتخفف العناء من باب القول المأثور: (روّحوا عن أنفسكم ساعة وساعة، فإنّ النفوس إذا كلّتْ ملّتْ).
|
وقد يستفيد القارئ من بعض المواقف فعن صديقه مصطفى وهبة، الذي كان في لندن سكرتيراً ثانياً في السفارة، وكانت له زوجة فاضلة غير عربية، عندما أقبل الجراد على المنطقة الشرقية، أوقدت مشاعل في طريقه إلى مزرعته، فتجنب الجراد المزرعة، فسلمتْ محتوياتها، وكانت حركة ذكيّة، وتصرّفاً يدل على عقل (ص379 - 380).
|
وقد كاد معالي الدكتور، مع صاحبه وقريبه، أن يقعا في حيل أصحاب الشقق في القاهرة، فصاحبة الشقة التي سكنوها، وهي شابّة أوهمتهم، أنّ والدها لواء في الجيش، ولم يستبعد هو وصاحبه عبدالله القرعاوي الذي كان يدرس في الإسكندرية هذا ولكن الخادمة لما وثقتْ بهما، ذكرت الحقيقة لهما، وهي أنها بنت عسكري شرطي) متقاعد من الشرطة، ويسكن في حي فقير، وابنته هذه كانت متزوجة من سعودي، طلقها وكسبت منه هذه الشقة، والذي يأتي مع هذه البنت صديق لها.
|
وأنها كلما جاءت للشقة، أخذت من الخضار، وبعض الأطعمة، وأنّ أسفل الثلاجة مكسور، وملصّق تلصيقاً، مؤقتاً وظاهرياً، ورجْل الكنبة مكسورة، وموضوعة وضعاً ظاهرياً.
|
وعند انتهاء مدة المستأجر، تحضر مع صديقها، لتحاسبه قبل المغادرة، فتشعرهم أنّ كل هذا من استعمالكم وعليكم إصلاحها، أو دفع الثمن حتى نصلحه، ومعلوم أن من حزم حقائبه سيسافر من لحظته، فبدل إدخال البوليس في العملية، لأنها بنت لواء في الجيش، يفضل الساكن دفع العوض لها، وصاحبها يمهد الأمر لها، ويخوف.
|
لكن المؤلف تدارس الأمر، بخفية مع رفيقه، للخلاص من هذه المصيدة، وابتكرا خطة متقنة، بنياها على ما عرفا من نفسيتها ذات الطمع، وقد مهدا لذلك بأن شقتها أعجبت كل من رآها، ويتمنون السكن فيها، ليس لمدة الصيف بل للسنة كلها، وقلنا بأن من يرغبون الشقة سيأتون، وأوصيناها بهم خيراً، فانتظريهم في صباح أحد الأيام، وأوصيناها بهم خيراً، ثم سافرنا كل لوجهته، فجزى الله الخادمة خيراً (ص105 - 108).
|
والكتاب بحق ممتع، ومع الفوائد العلمية ومسيرة الجامعة، وما توصلت إليه وغيرها، ففيه تسلية للقارئ، ومعلومات ذات أهمية ما يحصل عليها الإنسان، لولا هذا البسط، ممن عايش الأمور ورصدها في حينها.
|
|