عندما تشتد المنافسة بين الأدباء تثمر ثمراً طيب المأكل، حسن الرائحة، والحقيقة أن المنافسة المنضبطة، والمتلزمة بحدود ما يأمر به الدين، وتقبله القيم والأخلاق، هي ما تحقق الغاية، وتنير الطريق، وتزيد في العلم والإنتاج، أما إذا جنحت عن الحق، وضلت الطريق فإنها تكون أقرب إلى الباطل، وأدنى أن تصل إلى ما لا نفع فيه، ولا طائل من ورائه.
|
والمنافسات الأدبية بين الأقارب، ربما تكون أكثر حرجاً، وأصعب معتركاً، فقد تصل إلى قطيعة الرحم، وربما الإساءة إلى الذات من خلال الخصم.
|
ولقد لفت نظري منافسة كانت قائمة بين الوزير الكاتب أبي المغيرة عبدالوهاب بن حزم وبين الفقيه العالم أبي محمد بن حزم الظاهري، صاحب التصانيف الكثيرة ومنها كتاب (المحلى) و(طوق الحمامة)، و(كتاب الفصل بين الملل والنحل) و(نقط العروس)، وغيرها كثيرة، وصل إلينا القليل، وفقد الكثير.
|
وابن حيان المؤرخ المشهور لتلك الحقبة يميل إلى أبي المغيرة فقال عن هذه المنافسة: وجرت بينهما هنات ظهر فيها أبو المغيرة علي أبي محمد، وبكته حتى أسكته، لأنه كان فيه من أبي محمد حضور شاهده وذكاء خاطره، وحسن هيئته، وبراعة طرفه، وجودة أدبه، وهو كان في زمانه في الجد والهزل صاحب اللواء، في مجالس الأمراء، مستنجزاً للبيضاء، ممتطياً للشقراء، وتصور من قلوب الرؤساء فأجزلوا أرزاقه فعظمت صلاته وهباته. الواقع أن أبا محمد عالم كبير، غير أن أسلوبه التصادمي وعدم مجاراته لما يقوم به العلماء في عصره خلق له كثيراً من المشاكل التي أدت إلى إحراق كتبه. يقول ابن بسام إنه إذا سئل يفتجر فيه بحر علم لا تكدره الدلاء، ولا يقصر عنه الرشاء، دعونا من إطرائهم، ولسرد بعض هناتهم:
|
فقد خاطب أبو المغيرة ابن عمه أبا محمد بن حزم برسالة يتهكم فيها بعلمه، وينقد ويقلل من قدره ومنها: (وقفت - كلأك الله - وأنت عين التمام، وعلم الأعلام، على كتاب عنوانه باسمك أسمال، كأنه طلل بال، فكلما هززته هوّم، أو سألته استعجم، معنىً كصدى الإنسان، ولفظ كمنهجات الأكفان وأغراض لا يدب فيها سهم مقرطس، وإظلام لا وضح فيه لصبح متنفس، ورطانة تمهجها الأسماع، وتجتنبها الطباع، إلى أن قال: كتاب مبني على الظلم العبقري، والبهتان الجلي، ومكابرة العيان، ومدافعة البرهان، قد طمس الله أنواره، وأظهر عواره، فجاء كالفلاة العوراء لا ماء ولا شجر، والليلة الظلماء، لا نجم ولا قمر، إلى أن قال: ونسيت أبا محمد حاشيتك وشيعتك التي صرت رئيس مدارسهم، وكبير أحراسهم، تحدثهم عما كان فيهم من العبر، وتخبرهم بما تعاقب عليهم من الصفاء والكدر، فتارة عن السامري والعجل، وتارة عن القمل والنمل، وطوراً تبكيهم بحديث التيه وطوراً تضحكهم بقوم جالوت وذويه، حتى كأن التوراة مصحفك، وبيت الحزّان معتكفك، وأنا بمعزل، وأنت تحدث وتعزل وهي طويلة.
|
لكن ما دعاني إلى الإيراد هو رد أبي محمد المليء بالحكمة، والبعيد عن الغفلة، رد فقيه، وسمة نبيه، حيث قال:
|
سمعتُ وأطعتُ لقوله تعالى: (وأعرض عن الجاهلين) وسلمتُ وأنقدتُ لحديثه عليه السلام (صل من قطعك، واعف عمن ظلمك) ورضيت بقول الحكماء: (كفاك إنصاراً ممن تعرض لأذاك إعراضك عنه) وأقول:
|
تبغّ سواي امرءاً يبتغي |
سبابك، إن هواك السباب |
فإني أبيت طلاب السفاه |
وصنت محلي عما يعاب |
وقل ما بدا لك من بعد ذا |
وأكثر فإن سكوتي جواب |
|
كفاني ذكر الناس لي ومآثري |
ومالك فيهم يا ابن عمي ذاكر |
عدوي وأشياعي كثير كذاك من |
غدا وهو نفاع المساعي وضائر |
وإني وإن آذيتني وعققتني |
لمحتمل ما جاءني منك صابر |
هذا الرد الرائع الذي أورده أبو محمد بن حزم، حري بنا أن نقتدي به، ونعف عن الرد فلا ضير من أن نقابل السيئة بالحسنة، وأن يكون التسامح والتجاوز لاسيما عن الأقارب ديدنا لنا، ومسلكا لتعاملنا، فبه تتألف القلوب، وتتجمع الألباب لفعل الخير، والسير في طريق الفلاح، غير أن البعض قد لا يصده القول الجميل عن التمادي في الغواية والتضليل. ويبدو أن أبا المغيرة ابن حزم عفا الله عنه من أولئك، فقد كتب على الرقعة التي أرسلها إليه ابن عمه أبو محمد، فقال: قرأت هذه الرقعة العاقة فحين استوعبتها أنشدتني:
|
نحنح زيد وسعل |
لما رأى، وقع الأسل |
وأردت قطعها، وترك المراجعة عنها، فقالت لي النفس قد عرفتُ ذكاءها: تالله لا قطعتها إلا يده! فأثبتُ على ظهرها، ما يكون لصونها فقلت:
|
تعففت ولم تدر كيف الجوابُ |
وأخطأت حتى أتاك الصواب |
وأجريت وحدك في حلبةٍ |
نأت عنك فيها الجياد العراب |
وبت من الجهل مستنبحاً |
لغير قرى فأتتك الذئاب |
وقوله وشعره طويل، أخذتُ منه ما يفي بالغرض. رحم الله الاثنين وعفا عنا وعنهما، وألهمنا الصواب، ومخالفة الهوى، واتباع الحق، وتنزيه اللسان عما يعيب.
|
|